صحافة

                                                  

الجمعة، 19 دجنبر 2008

فتنة الهامشي وغواية أشيائه

فتنة الهامشي وغواية أشيائه
(عندما يبكي الرجال) لوفاء مليح نموذجا
د : محمد صولة
استهلال :
إن الكتابة السردية النسائية هي في الأصل تسمية نشاز، ذلك أن الوعي بها يقتضي الوقوف على الخصوصيات الذاتية للموضوع ، لأن استراتيجية التداول هنا تقتصر على الإلمام بكل عناصر الحكي المرتبطة بالخصيصة الجسد ية ، إذ أن العلاقة التي تجمع بين المرأة ومصطلح " النسائية " كآلية تفتيتية لثيمة المرأة تختزل البعد الإنساني في كلا الحالتين ، وهكذا تبدو ظاهرة الكتابة النسائية متمحورة حول الذات وشرنقاتها ، ومرتبطة بكل تفاصيل جسد المرأة وهي تشعر بالخيبة والإضطهاد اللذين يجعلانها تفتقد إلى شروط الحياة ، ومن هذا المنظور تتبأر رؤية القمع المنبنية أساسا على المحظور والمحرم والممنوع ، وبالتالي تدفع بالإرتكاز على إعمال اللاشعور لإعادة فهم الواقع وكل ما يحيط به ، لذلك فالكتابة السردية النسائية استطاعت أن تسائل مجهول الذات ، باعتبارها عنصرا مهما في قراءة الصورة التي تحملها المرأة عن نفسها وليس العكس ، ولعل هذا ما يبرر الحفر الأركيولوجي العميق والبحث في أنثروبولوجية الكينونة الأنثوية ، بحيث إنها تستعيد بدئيتها من خلال ما قدمه التاريخ الذكوري المتسلط عليها ، وماأرغمها على الإمتثال إلى نمطية عقيمة استفحلت في ظل الفساد المستشري في عالم الرجل الباطريركي ، والخاضعة إلى قبم لآ تستأثر بالقضية معنويا ، بل رمزيا ، الشيء الذي يجعلها تعلي من شأن التواجد النسائي وتبوئه المكانة اللائقة به .
1 – المحكي الروائي والإستراتيجية السردية :
وتقترح علينا الكاتبة المغربية وفاء مليح عملها الروائي الموسوم بالعنوان التالي : عندما يبكي الرجال 1، الصادر عن مؤسسة دار افرقيا الشرق – المغرب ، 2008 ، من خلال هذا التوجه الذي أشرنا إليه سابقا ، فالرواية تنبني على محكي بسيط يختزل العلاقة بين ( فاتن ) و(أحمد ) ، وهي غير متكافئة ، لأن فاتن تحاول ترجمة حياة الضياع والتشرذم والإحتجاج والعطالة المميتة والمملة ، عارضة أزمتها الوجودية بكامل الحرية أمام ذاتها أولا ، ثم ناقلة إياها إلى متلق عادي ثانيا ، تقول الكاتبة رشيدة بنمسعود :" إن رواية "عندما يبكي الرجال " للكاتبة وفاء مليح ، تلتقط تجربة الاعتقال والحرية عبر توظيف مدونة المذكرات ودينامية التذكر ، حيث يطالعنا صوت الراوي / الآخر مع افتتاح الرواية كصوت محايد يوجد بين منزلتين ، لا هو بالمذكر ولا هو بالمؤنث ، بل مجرد كائن وسيط يتوحد مع الآخر ويختلف عنه في نفس الآن ، حيث يتداخل صوت السارد ( فاتن ) والمسرود عنه ( أحمد ) عبر مسار حكائي تتحرك الكاتبة من خلاله وتتحكم في وقائعه السردية ، وتتحول هذه العلاقة الحوارية على لعبة مرآوية عبرها يتجه "أحمد" أحد شخوص الرواية إلى المتلقي من خلال الشخصية / الوسيط (فاتن ) أثناء قراءتها لمذكرات أحمد ، فتنعكس بذلك مستويات التداخل والتباعد بين فاتن وأحمد متجاوزة بذلك التقسيم الجنسي التقليدي بين المذكر والمؤنث 2، وإذا كانت الرواية تطرح إشكال اندحار الشخصية أمام متغيرات المرحلة ، وذلك بتجسيد العنف المادي والرمزي الذي يكتنفها داخليا وخارجيا ، فإنها تسعى إلى إبراز العيوب والمثالب والإرتكاسات التي يعج بها الواقع ، فالتعدد بين الفشل والنجاح ، بين الإحباط والأمل ،يؤجج لواعج الطموح إلى تحقيق المبتغى ، لأن الساردة وهي تبحث عن نصفها الآخر، تجد نفسها مرغمة على تبني مقاومة دونكشوطية ، تطرح الأسئلة الكبرى دون أجوبة ، تفتح جبهات بلا مناصرين ، غير أن ما تختزنه الذات يعد من أعمق التجارب الإنسانية التي هي ملتصقة بالتحولات والمعاناة وصروف الزمن ، وفي هذا السياق تكون الساردة شخصية متمردة على أشكال النموذج والتقاليد ، غيرمهتمة بما يلفها من صور الماضي والذكريات المرة ، في حين يبقى الآخرمخيفا وبشعا إلى أقصى الحدود ، لكنه فاقد للمصداقية والحيوية ، " فشخصية " أحمد " الذي تقدمه الرواية كفاعل سياسي وناشط جمعوي وأستاذ جامعي يعطي لمعنى الجنسية والإصابة بالعجز الجنسي دلالة عن غياب الفاعلية والخصوبة المنتجة والعطاء المؤثر" 3 ، أو حينما تتلفظ الساردة قائلة : " أدرك أنني في هذه الفترة أعيش بلادة في الإحساس ، لفحتني ريح الهزيمة واليتم . الخراب في نفسي كثيف منذ أن حصلت على شهادة الإجازة في القانون وأصبحت بعدها أطرق الأبواب بحثا عن العمل ، يتحرش بي هذا ويطردني ذاك . أبكي . أستجدي . أفتح الأبواب فلا أجد سوى هسهسة الريح وفراغ قاتل ينهك أعصابي . يعصف بآمالي . يعطل حواسي . أربع سنوات وأنا أركض وراء سراب إسمه عمل قار .انضاف على قائمة المعطلين الطويلة . سنوات أربع وأنا أطرق الأبواب حتى أصبحت أطرق رأسي لأمنعه من الجنون والخبل . كيف لا وقد فقدت ثقتي بنفسي وتوازني الداخلي ..... " 4 ، لقد استطاعت الكاتبة وفاء مليح أن تبني استراتيجية على أحداث متداخلة ومتناقضة في الآن نفسه ، منطلقة من مكان محدد طوبوغرافيا ودلاليا ، ومتخذة من الشخوص صورا ذات أبعاد إنسانية ، منها ما هو مصرح به ومنها ما هو مضمر ، لهذا فالمحكي الروائي لايظهر في بساطته التعبيرية ، بقدر ما يغوص في أعماق التجربة المتلاحمة بالواقع، والمستفزة له ، والمستعيدة من خلاله توازنه وإيقاعه ، ذلك أن البنيات الدالة في الرواية أفرزت لنا ثيمات متعددة لعل من أهمها الإقصاء والتهميش والعطالة والعزلة والتحرش والظلم والإستعباد والخيبة ، كل هذه العناصر ، مهما اختلفت أشكال خطاباتها ، تؤشر على معنى واحد هو عجز الفرد في مجتمع مخاتل ومتخاذل ، لايملك سلطة ذاته إلا بالإحتمال والنسبية والوهم .
2 – صورة الهامشي من خلال دلالة الأشياء :
يمكن القول إن الرواية العربية عامة قد ساهمت في هذا المنحى بالقدر الكافي ، إلا أن الكتابة السردية النسائية المغربية في خصوصيتها ، اهتمت بهذا الطرح وتناولته من منظورات متباينة ، ونلخظ ذلك عند كل من عائشة موقيظ وزهرة رميج وخديجة مروازي وزوليخة موساوي الأخضري ووفاء مليح وفاطنة البيه ونجاة السرار ومليكة صراري وزهور كرام وربيعة ريحان ....إلخ ، بحيث إن الهامشي كما تعيه الكاتبة يصبح هومنطلق الرواية بامتياز ، إذ أن توظيفه يضاعف من تعبيرية الخطاب المحكي ، ويقوي من تلاحم عناصر اللغة وإيحائيتها ، تقول زوليخة موساوي الأنصاري : " جسد النساء ، قنطرة العبور إلى كل شيء وإلى اللاشيء " 6 ، أو عندما تقول أيضا : " الكتابة تمثل لي أشياء كثيرة رغم انشغالي عنها أحسها تصطخب داخلي واليوم أكثر من أي وقت مضى أشعر بها جزءا مني "7 ، هذه الرؤية للكتابة تؤول العلاقة التي تجمع بين الذات والواقع ، وتفجر اللامفكر فيه ، لأن المراة كهامش يحقق اللذة في جسد الكتابة ، هو منذور للسعادة والألم ، هكذا تبرز إشارات مفصلية تلقح هذا البعد وتذكيه ، إنها جراحات الذات وهي تبحث عن كينونتها ، وعن وجديتها ، لذا فهي تنطلق من الأنا الداخلية وتسرح في تمظهراتها الخارجية ، كاتمة إحساسها تارة ، وأخرى مفجرة له ، ومع ذلك ، ورغم بطش التحولات والتقلبات التي تعيشها الساردة نجدها تنشد إلى المستقبل وتستشرفه ، تقول :" لكن شيئا بداخلي يدفعني إلى الصمود . إلى البقاء . إلى قهر الفشل . رغم نوبات الحزن واليأس التي تغلف الأعماق . أنهض بعدها من تحت الرماد كطائر الفينيق .أستعيد لحظات التألق التي عشتها أيام الدراسة . أقول لنفسي سأدق مسمارا في نعش من يقتات على امتصاص دماء شعب أصبح كل همه هو توفير لقمة الخبز اليومي " 7 ، وبذلك فالصورة التي تنقلها لنا لاتحصرها في ذاتها فقط ، بل تتعداها إلى المحيط ، الشيء الذي يؤكد حرارة الإختلاف بين الشعورواللاشعور .
إن الهامشي في الرواية المغربية يستدعي كل ممكنات الرفض والإقصاء ، وعدم الرضوخ إلى عالم الأسوياء ، باعتباره مجرد فضاء مهمل وغير منفتح على باقي الفضاءات الأخرى ، لاسيما أنه قابل للتحول في ما يجعله أشد انطوائية بالنسبة للشخوص ، وأحد انغلاقا بخصوص الأمكنة والأحياز ، هذه العلاقة بين الشخوص والأمكنة تسترجع من خلالها الساردة صور الماضي الذي يكبلها بعنفه ، ويدفعها إلى محاولة تجاوزه ، لكنها لا تقدر على المواجهة ، تقول : " أهيم على وجهي في غياهب الذكريات والتذكر . تقودني قدماي عبر شوارع هذه المدينة . أجول في الفضاءات . أحس بحرارة ودفء كما الجنين في رحم أمه . هي ذي مدينتي إذن ، مدينة البحر والحب والحزن والأحلام المنكسرة " 8 ، وسواء تمثلت الساردة تقاطع العلاقة أو استعادت رمزيتها ، فإنها تستحضرها في تأملها التلقائي للزمن ولخصوصيته ، هكذا نلفيها تتحدث عن ما يشدها إلى التاريخ من منظور استرجاعي ، تقول : " أريج عبق التاريخ يند إلى أنفي وذاكرتي . يضمخ الجو . أتجول بين فضاءات ذاكرتي . فضاء . فضاء . ترافقني ذكراه . أحسه بجانبي يمسك بيدي وكل ركن نزوره يسرد تاريخه . بت أعرف تاريخ تأسيسها حجرة . حجرة . وتاريخ ساكنيها . يحكي الحكاية . أتامله وأجده قد طوى الأزمنة ودخل في قمقم الذاكرة . تنسكب الكلمات والجمل من شدقيه شلالا ينزل على روحي في إيقاع يهدهدها . يسرد بتلقائية الوقائع والأحداث . يلون الأشياء والأشخاص . فيربطني سحر كلماته وبديع صوره بعوالمه التاريخية . يذكي جذوة التواصل وينسج وشائج تسري وتستقر في الأعماق " 9 ، ومن هنا يبدو كيف أن الهامشي بإمكانه أن يصوغ خطابا اختلافيا ، ويحمل قيما في مجملها تصحح أخرى تتمظهر بالزيف والإلتباس .
يتبدى الشيء كمقابل للهامشي في رواية وفاء مليح ، لأن هذا المكون ( الشيء ) هو في الوعي العربي إما منظورا أو محسوسا أوشعورا أو هدفا أو سلوكا أوقيمة ، ويختزله البعض في ما هو مادي أو معنوي10 ، إذ نجده متعددا ومتلاشيا ، مرة هو جسد مادي لأنثى ومدينة وعالم ، ومرة يستدرج تفاصيل العناصر المكونة للمعنى في بعده الرمزي ، لذلك نجد المؤشرات الدالة على هذا تخضع إلى توصيف للزمان وللمكان وللأحداث ولكل ما يخص الشخصيات المتحركة في الفضاء النصي وخارجه ، كقصبة الأوداية : أبوابها، أقواسها ، ساكنتها ، حركتها ، أطفالها ، منشآتها ، ممراتها ، حدائقها ، أحجارها ،أحلامها ، وبذلك " ينقلب الشيء في الرواية المغربية من مجرد دلالته على تسمية إلى عنصر مهم في تحديد الصورة " 11 ، وبالتالي يؤجج الصراع بين الذات كبنية ذهنية حمالة لأسئلة وجودية واجتماعية وسياسية ، والموضوع كجسد تنتهك حرماته وتنكشف عيوبه ومثالبه للعيان ، ثم يصبح كائنا معتوها أخرس لايقدر على التفكير أو التعبير ، " أهرب من كل امراة أرى في عينيها رغبة واشتهاء . أدفن رغبتي وأركض بعيدة . بعيدا عن كل مرآة أرى فيها عجزه . لم أعد أحتمل رؤية جسدي عارية . لم أعد أحس جسده . كل أعضائه لم تعد جزءا منه ....لكن في لحظات الجنون المنفلت أقف أمام مرآة الحمام . أمسح زجاج المرآة جيدا . وحدي في الحمام . أرقب بهدوء عري جسده . صمت مطبق خيم على أجواء نفسه . أحدق طويلا في المرآة فأجد مرآة شفافة لا تعكس إلا الفراش . أقترب منها تتبدى مناطق جسده . تأملت جسدي في المرآة بمرارة عضوه .عضوه . أي نعم هذا جسد رجل . لكن أين رجولته أمام عجزه ؟؟ "12 ، وبهذا تكون العلاقة بين الهامشي وأشيائه تشكل بلاغة مميزة كخطاب مدعوم بوفرة متناقضات الواقع وإكراهاته .
3 – شعرية الخطاب الروائي :
تتعدد الكتابة السردية النسائية في متنها الحكائي ، فمن الرواية إلى القصة ، إلى المذكرات والأوراق المفتوحة ، وهكذا بتنا نلاحظ أنماطا إبداعية ثرة ، لا تقف عند حدود معينة ، لكن ما يسترعي الإنتباه في هذا النمط التعبيري هو الصوغ الخطابي السردي ، لذلك تأتي هذه الكتابة ممهورة بخصوصية النفس الأنثوي ، ومخلصة له إلى أقصى الحدود ، ومستعينة بخطابات موازية له قصد الإقناع ، خاصة عندما تتمثل النصوص الشعرية الفصيحة والزجلية ، والإشارات التهكمية والإنتقادية للمجتمع والدولة ، وبالفعل ، ف " إن رواية " عندما يبكي الرجال " لوفاء مليح ترتفع بنا عن سوداوية الواقع وانكساراته القاتمة بتوظيف اللغة الغنائية الشفافة التي تمارس نوعا من الغواية التي تستدرج القارئ وتستميله منوعة بين النصوص الشعرية من قصائد نزار قباني ، والأمثال الشعبية وتوظيف الأغاني الحماسية التي اشتهرت مع مجموعة ناس الغيوان القريبة من أفق انتظارات الشخصية الملتزمة في الرواية " 13 ، ويمكننا أن نجد الإحساس بالممارسات السلبية اتجاه المرأة ، فالخطاب الذكوري الذي تستحضره الساردة في الرواية يظهرمدى تعفن هذه العلاقة ، تقول الساردة :" أنا تزوجته ولم أتزوج شعره . لم يعد لي طاقة على الإحتمال . كل الطاقات أهدرت في انتظاروهم رجل لن يأتي . رجل مشغول بأشياء لاعلاقة لها بي ولا بأولاده . تائه عن العالم . وجدتني زوجة في عين المجتمع . وأنا لست إلا أما لأطفال أصبحوا أيتاما ووالدهم على قيد الحياة " 14، لكن أين تتجلى شعرية الخطاب الروائي في هذا النص ؟ وما هي خصوصياتها ؟
إن مجرد إلقاء نظرة أولى على الرواية ، نشعر وكأننا بصدد قراءة أوتو بيو غرافية لكاتبة ما ، تعقد من خلال بداية النص الروائي ميثاقا ذاتيا ، يحيل على أنا الكاتبة ، تقول في تداخل بين الأنا الساردة والأنا الكاتبة :" قصيدة كان دائما يرددها في لقاءاتنا . ليتني جعلت المسافة بيني وبينه عصرا ....." 15 ، فمن هذا الصوغ تحضر في الرواية بأكملها ، إذا أردنا ، صورة المؤلفة ، بحيث إن الإستهداء باللغة الشاعرة يعد من إيجابيات الرواية ، خاصة وهي تنقل لنا تفاصيل الزمن والتاريخ والإحتجاج والخيبات والطموح ، كل هذه التعددية تخلق خطابا متنوعا ومملوءا بالأسئلة المفتوحة على الذات وهي تعيد انتساج العالم وموجوداته ، إذ تتناص نصوص لدعم شعور الكاتبة ، وتدفعها إلى بناء وعي جمعي يتجاوز النزعة الذاتوية ، التي تغلب الفردانية في بعض الروايات المغربية خاصة والعربية عامة ، مما يجعلها لا تقف عند معجم الكلمات فحسب ، بل تتعداه إلى دلالات انزياحاته ومستويات تلقيه ، وهكذا تستثمر وفاء مليح أصواتا تتصادى مع ذاتها ، كإبن عربي المتصوف ( يحسبونك جرما صغيرا . وفيك انطوى العالم الأكبر) 16 ، وهي تحاول مواجهة عجز الرجل ومخاتلته لها ، أواستعادتها لأغنية المرحوم إسماعيل أحمد "خفة الرجل "17 ، التي تكرس وعي الرجل إزاء المرأة ، وهو يعاملها من خلال " تناقضاته . غموضه . وضوحه . ثورته . هدوئه " 18 ، بالإضافة إلى ما ذكرناه سابقا ، كنص الصينية لناس الغيوان 19 ، أو إشارتها إلى رواية إرنست همنغواي "العجوز والبحر" 20 ، و كتاب " الحداثة والسياسة " 21 ،فكل هذه التناصات تجبر الروائية على البو ح بما تحس به في علاقاتها مع الرجل ، وبالتالي تنسجم مع إيقاع وضعيتها المتذبذبة والمترجحة بين النجاح والفشل ،وهذ التناغم لا يبرز في شعرية الملفوظ فقط ، بل في العنوان كعتبة تنطلق منها لتسكب حرارة ارتباطها بهذا الكائن الذكوري ، تقول : " ليست المرأة وحدها تبكي . البكاء يعني الرجل ايضا .كنت فيما مضى انزع إلى السخرية والتهكم في مواقف تدعو إلى البكاء وأقول في نفسي كما علمتني أمي . الرجال لايبكون . لكني في حالتي هاته أبكي بحرقة الرجولة الضائعة .لو يعلم النساء أن بكاء الرجال أشد ألما لتوقفن عن بكائهن "22 ، وبذلك تزداد قناعة الروائية وهي تمزج بين السرد الروائي والأوتوبيوغرافي مستعرضة صورة المرأة ضمن خطاب ذاتي حافل الصراع الداخلي ، والمفتوح على مواضيع تتناسل فيها أسئلة لانهائية تهم الوطن والهوية والثقافة والتعليم والدين والجنس والمرأة والإحتجاج والدعارة ، هكذا تكون هذه الرواية تسعى إلى طرح تآلف خطاب يظهر علنا أنه متجانس ، لكنه في العمق يخفي تناقضه بخصوص وعيه للواقع وتمثلاته . إنه وعي مشروخ وموهوم ، وصادم ومصدوم خاصة عندما يقع بين المابين ، أو إن شئنا بين الرفض والقبول .
خاتمة :
أردنا في هذه الدراسة أن نبين أن الكتابة السردية النسائية المغربية تنحو مناح متعددة ، فهي إلى جانب تركيبتها الذاتية الحاصلة في الخطاب واللغة والصور والفضاءات ، تحاول أن تشيد بناءها المخصوص ، لذلك نلاحظ أنها تخلق لنفسها ، وبوسائلها الخاصة ، متعتها وتشويقها، وهذا يعود إلى أن عالم الكتابة لاينحصر على الرجل فقط ، وإنما ينفتح على عوالم المرأة وسر ارتباطها بالحكاية .

الهوامش :
1 – وفاء مليح . عندما يبكي الرجال . إفريقيا الشرق .الطبعة الأولى . 2007 .
2–3 - رشيدة بنمسعود ." عندما يبكي الرجال " بين الإنكسار والأمل . ملحق الإتحاد الإشتراكي ( فكر وإبداع ) 5/ 12/2008 . العدد 9041ةأةأااىة . الصفحة 3 .
4 – وفاء مليح . عندما يبكي الرجال . مرجع سابق .ص 13 .
5– زوليخة موساوي الأخضري . الحب في زمن الشظايا .المطبعة السريعة . الطبعة الأولى 2006 . الصفحة 58 .
6– المرجع نفسه . ص ص .105 -106 .
7- 8 – وفاء مليح .عندما يبكي الرجال .م س . 14 .
9 – نفسه .ص ص .17 – 18 .
10 – يمكن العودة إلى معجم Micro Robert للتوسع أكثر ، وإلى المعجم الفرنسي Larousse .
11 – محمد التعمرتي . دلالة الأشياء في الرواية المغربية . فكر ونقد . السنة السادسة . عدد 53 - 2003 . الصفحة 105 .
12 – وفاء مليح . عندما يبكي الرجال . م س . ص82 .
13- رسيدة بنمسعود ."عندما يبكي الرجال" بين الإنكسار والأمل .م س . ص 3 .
14- وفاء مليح . عندما يبكي الرجال . م س. ص104 .
15- نفسه . ص 5 .
16- نفسه . ص64 .
17 -18 – نفسه . ص66 .
19 – نفسه . ص ص 69 -70 .
20 – نفسه . ص 112 .
21 – نفسه . ص 120 .
22 – نفسه . ص 100 .

الثلاثاء، 2 دجنبر 2008

إتحاد كتاب المغرب

إتحاد كتاب المغرب
محمد صولة
Sawla.mohamed@hotmail.com

ليس من الضروري أن يتكلم المرء على سلبيات المؤتمر الوطني السابع عشر لإتحاد كتاب المغرب هكذا ، بل لابد أن ينطلق من معطيات النقاش الذي يدور بين المثقفين الذين ينتمون إليه ، إذ أن الهامش وحده يمكنه أن يختزل صورة الإتحاد العامة ، وإذا كان جل المتدخلين قد حاولوا أن يبرروا أزمة الإتحاد من خلال انتقادهم له من مستويات ذاتية ، كالسفريات والإستفادة من المشاركة في الأنشطة التي يقوم بها ذاخل الوطن أو خارجه ، والطبع والنشر ....إلخ ، فإن الأهم هوالأسئلة التي بقيت مغيبة طيلة المؤتمر ، ولم تناقش بعمق ، والحقيقة ان الأغلبية ترى في الإتحاد تلك الصورة التي تخبئ الكثير، أو الشجرة التي تختزل الغابة ، وبالتالي أن كل طرف بات يرتبط بأسئلته لاغير ، في حين بقي البعض الآخر في برجه العاجي ينتظر دوره في مكان ما خارج الإتحاد ، فما سبب حضور الجيل الجديد بكثافة دون أن تكون له الكلمة الفصل في تحديد مسار حديث ومقنع ؟ هل هذا الحضور هو مجرد أوراق للتصوت فقط أم أنه تأثيث للفضاء الرمزي للإتحاد ؟
إن الواقع كما يبدو ليس هو هذا فحسب ، بل هناك إحساس بفقدان الثقة في الإتحاد ، وعدم فعاليته ، وانغلاقيته على نفسه ، وارتباطه بأسماء دون غيرها ، وغموضه في بعض المواقف وتكتمه على المشروع الثقافي العام والخاص ، هذه معطيات يمكن للأي مؤتمر أن يحس بها وهو يعيش هذا المؤتمر ويقيسه بالمؤتمرات الأخرى ، لكن مهما كان الأمر فالمثقف عليه أن يكون عضويا ( بتعبير غرامشي ) ملتزما بقضايا عصره وبهموم الناس ، وليس بالتفكير أن هذا الإطار يمكنه أن يساعد على التسلق وخلق إخوانيات وصداقات للطبع والنشر ، أو للتزلف والتقرب من أولي الأمر قصد نيل المطالب والإكراميات ، فما طرحه المؤتمر لم يكن في مستوى المرحلة ، لأن كل الأسئلة بقيت معلقة إلى حين ، لذا لم يتم الحسم في علاقة الثقافي و السياسي ، أو إشكال الديموقراطية والتعددية ، أو المشروع الثقافي الوطني والعولمة ، أو خصوصية الهوية والإنفتاح على الآخر ، أو علاقة الثقافة بالتعليم و أزمة القراءة ، هذه أسئلة حاولنا أن نسوقها هنا لنؤكد أن دور الكاتب المثقف تتجاوز إطار الإتحاد ،
لأن العمل هو أن نبدع ما هوأجمل ، أن نفكر في ذواتنا وفي علاقاتنا مع الآخر ، لهذا من الواجب علينا أن نتخلص من عقدنا ، ومن نرجسيتنا .
ملحوظة :
هل بالفعل أن إتحاد كتاب المغرب إطار محايد ؟
ماالهدف من إدراج خطاب الإنفتاح على ما يسمى بالإنتقال الديموقراطي ذاخل المؤتمر؟
لماذا لم تكن ولو امراة واحدة في المكتب المركزي ؟
ما هو سبب تهافت الأعضاء على الترشيح ؟
لماذا تغيب البعض دون أن يعلنوا عن ذلك ؟

الخميس، 13 نونبر 2008

أسئلة بين وهم وحقيقة

أ سئلة بين وهم وحقيقة
محمد صولة
Sawla.mohamed @hotmail .com
هل تعلم أن كل الذين يخططون للتحكم في العالم هم واهمون ؟
هل تفهم ما يقوله الذي يحس بأنه هو هو ولا أحد غيره في ال " هو " ؟
هل يمكنك أن تقرأ ما يكتبه الجلادون المتظاهرون بأنهم شرفاء الحقيقة ؟
هل أنت متيقن بأن المظاهرة التي سنخوضها نحن التعساء ستنجح ؟
هل أنت الذي سبحت البارحة ضد التيار واليوم تردمه في مزبلة التاريخ ؟
هل كان من الضروري أن أصرخ لكي يسمعني الآخر ؟
هل هذا المعبر الوحيد هو الذي يقود إلى نقطة اللاعودة ؟
هل يكفي أن أكتب بحبر البحر حتى تنخرط معي السماء في أحزاني وهمومي ؟
هل يكفي أن أتواطأ مع عدو الأمس لأضمن استمراريتي في الوجود ؟
هل يكفي أن أموت مرة واحدة ليحيا الآخر حياة أطول؟
هل يكفي أن تكون شرطي الوقت لتكبس ما تبقى من هواء في الكون ؟
هل يسقط المطر على أحد دوني حتى أختار حجم مظلتي ؟
هل يمكنك أن تقرأ بيتا من الشعر لتحس بنبض العالم ؟
هل لديك كل الوعي لتختزل ماهية الفلسفة في اليومي السيار؟
هل كل هذا الوهم الذي نبذره يوميا ما هو إلا حقيقة افتراضية ؟
هل كل الأسئلة يكفيها أن تنتهي بأجوبة ؟
هل قرأت يوما ما كتبه الشاعرالعربي حين قال :
أصبحت لا أحمل السلاح ولا
أملك رأس البعير إن نفرا
والذئب أخشاه إن مررت به
وحدي وأخشى الريح والمطرا
من بعد ما قـوة أسربها
أصـبحت شيخا أعالج الـكبرا
هل هذا يكفي لأقول إني على عجل من أمري في السقوط الباذخ نحو هاوية ساحرة ؟
هل هذا الكلام لايشعل في توقد الشباب و أنا بعد لم أصل معترك الشيخوخة ؟
قال الشاعر الدكتور غازي القصيبي وهو في مطلع العشرينيات :
الشعرات السود في مفرقي
تحجب عنك الخافقا الأشيبا
والشمس في الأفق لكنني
ألمح خلف المشرق المغربا
هل بالفعل هنا ك أحد ما يختفي في جبة الشيخ الحداثي ليخدعه بإرهاب الأصالة ؟
تحت عنوان إيمي ذات الهمة في رواية عبد الله العروي الآفة ( صفحة 185 )
جاء على لسان فيليب ديك مايلي : أعتقد أننا نعيش في عالم غير الذي نراه .
هل الكتابة بالماء تخبئ ققنس الحياة في بلاده الوخمة ؟
هل من المعقول أن تكون هدايا العيد مجرد أغان بورنو غرافية ؟
هل ما تبقى من حبق وسوسن وريحان نزرعه في صحراء القلب ؟
هل تسأ ل............؟
هل أسأ ل............؟
لا أحد يمكنه أن يسأ ل كما يريد ولا أحد يجيب .......
أنا السؤال وأنت الجواب أو ربما أنت السؤا ل وأنا الجواب .





أ سئلة بين وهم وحقيقة محمد صولة

أ سئلة بين وهم وحقيقة

محمد صولة

Sawla.mohamed @hotmail .com


أ سئلة بين وهم وحقيقةcom

أ سئلة بين وهم وحقيقة

محمد صولة

Sawla.mohamed @hotmail .com


هل تعلم أن كل الذين يخططون للتحكم في العالم هم واهمون ؟

هل تفهم ما يقوله الذي يحس بأنه هو هو ولا أحد غيره في ال " هو " ؟

هل يمكنك أن تقرأ ما يكتبه الجلادون المتظاهرون بأنهم شرفاء الحقيقة ؟

هل أنت متيقن بأن المظاهرة التي سنخوضها نحن التعساء ستنجح ؟

هل أنت الذي سبحت البارحة ضد التيار واليوم تردمه في مزبلة التاريخ ؟

هل كان من الضروري أن أصرخ لكي يسمعني الآخر ؟

هل هذا المعبر الوحيد هو الذي يقود إلى نقطة اللاعودة ؟

هل يكفي أن أكتب بحبر البحر حتى تنخرط معي السماء في أحزاني وهمومي ؟

هل يكفي أن أتواطأ مع عدو الأمس لأضمن استمراريتي في الوجود ؟

هل يكفي أن أموت مرة واحدة ليحيا الآخر حياة أطول؟

هل يكفي أن تكون شرطي الوقت لتكبس ما تبقى من هواء في الكون ؟

هل يسقط المطر على أحد دوني حتى أختار حجم مظلتي ؟

هل يمكنك أن تقرأ بيتا من الشعر لتحس بنبض العالم ؟

هل لديك كل الوعي لتختزل ماهية الفلسفة في اليومي السيار؟

هل كل هذا الوهم الذي نبذره يوميا ما هو إلا حقيقة افتراضية ؟

هل كل الأسئلة يكفيها أن تنتهي بأجوبة ؟

هل قرأت يوما ما كتبه الشاعرالعربي حين قال :

أصبحت لا أحمل السلاح ولا

أملك رأس البعير إن نفرا

والذئب أخشاه إن مررت به

وحدي وأخشى الريح والمطرا

من بعد ما قـوة أسربها

أصـبحت شيخا أعالج الـكبرا

هل هذا يكفي لأقول إني على عجل من أمري في السقوط الباذخ نحو هاوية ساحرة ؟

هل هذا الكلام لايشعل في توقد الشباب و أنا بعد لم أصل معترك الشيخوخة ؟

قال الشاعر الدكتور غازي القصيبي وهو في مطلع العشرينيات :

الشعرات السود في مفرقي

تحجب عنك الخافقا الأشيبا

والشمس في الأفق لكنني

ألمح خلف المشرق المغربا

هل بالفعل هنا ك أحد ما يختفي في جبة الشيخ الحداثي ليخدعه بإرهاب الأصالة ؟

تحت عنوان إيمي ذات الهمة في رواية عبد الله العروي الآفة ( صفحة 185 )

جاء على لسان فيليب ديك مايلي : أعتقد أننا نعيش في عالم غير الذي نراه .

هل الكتابة بالماء تخبئ ققنس الحياة في بلاده الوخمة ؟

هل من المعقول أن تكون هدايا العيد مجرد أغان بورنو غرافية ؟

هل ما تبقى من حبق وسوسن وريحان نزرعه في صحراء القلب ؟

هل تسأ ل............؟

هل أسأ ل............؟

لا أحد يمكنه أن يسأ ل كما يريد ولا أحد يجيب .......

أنا السؤال وأنت الجواب أو ربما أنت السؤا ل وأنا الجواب .

الأحد، 2 نونبر 2008

أضغاث أحلام

أضغاث أحلام
محمد صولة
Sawla.mohamed@hotmail.com
أحلم أن يكون لي أكثر من عينين لأرى العالم من زوايا مريحة .
أحلم بيدين تعيدان تشكيل المادة من جديد .
أحلم بأذنين تسمعان إيقاع الكون الذي هو جزء مني .
أحلم برجلين تركضان كبراق مجنح نحو قبائل البدايات .
أحلم بخدين لا يحملان أي لون حتى لا يعشقهما أحد ما .
أحلم بلسان من عدم لأقول به قصيدة الحياة الأولى .
أحلم بأنف لأشم به رائحة الجنة هناك .
أحلم بفم مثل خاتم أوقبر سيان .
أحلم بصدر يسع كل آلام السيد والسيدة وهما على فراش الموت .
أحلم ببطن رجولي تنبث فيه فحولة الحقيقة .
أحلم بكتفين يحملاني بدل أن أحملهما أنا .
أحلم بأسنان من ماء تقوى على تقشير جلد الهواء .
أحلم بشفتين تتربصان بنهد الكرة الأرضية .
أحلم بأصابع لاتشبه أقلام الأطفال في المدرسة .
أحلم بشعر لايغطي رأسي حتى أتنفس الهواء كما أريد .
أحلم بأضافر يمكنها أن تكتب بالدم سيرة ذاتي الأولى .
أحلم بعنق لا يحتمل صيغة بعيد مهوى القرط .
أحلم بذراعين لا يملان ولايكلان عن رفع مفاسد العالم .
أحلم بخطو أخطوه على مدارج المدن التي تسكنها الرياح .
أحلم بأرض من حليب كلما عطشت إلا وشربت منها .
أحلم بنساء في شكل يغريني أكثر مما كان وما هو عليه الآن .
أحلم بأني لم أعد أنا هو كما كنت في سالف الأزمان والدهور .
أحلم بحاجتي إلى الأسئلة أكثر من الأجوبة .
أحلم بجلسة استثنائية مع شيخ المعرة في رسالته الممهورة بنشوة الغفران .
أحلم بكلمات ينفحها لي هيدجر ورامبو وأدونيس وكل الهامشيين في العالم .
أحلم برقصة وسط الحضرة التي يقيمها الحلاج وإبن عربي .
أحلم بزي من لبن العصفور أرتديه عندما أصبح كائنا خرافيا .
أحلم بفراشات تنقل عناويني إلى أحبتي وليس الإيمايلات .
أحلم برأس يشبه خفة ريشة عندما تقاوم هبات خريف العمر .
أحلم بكتاب يكتبني وليس أنا من أكتبه .
أحلم بصورة تجعلني أحيا الحياة كما هي وليس شيئا آخر .
أحلم بوسادة كلما وضعت رأسي عليها لأنام إلا وكان الكون في ذهني .
أحلم بأغنية تأتي من مرافىء بوهيميي بحر الصحراء .
أحلم بتاريخ هو كل مجد الإنسان الأصيل وليس العكس .
أحلم بغد مشرق على يابسة مأهولة بالسلام والمحبة والتقدير .
أحلم ...أحلم .....أحلم .

السبت، 18 أكتوبر 2008

هل أتاك حديث البرلمان ؟

الحر بالغمزة

هل أتاك حديث البرلمان ؟
محمد صولة
sawla.mohamed@hotmail.com

من الممكن أن يتم الحديث عن البرلمان من مستويات عدة ، هي على الشكل التالي :

برلمان الطفل :
يبرز الكبار دائما ، ويختارون الصغار قصد أن يعيدواصورهم حسب منظوراتهم
الخاصة ، يضعون لهم القوانين ويحاولون ترسيخ أفكار ما ، لكن الصغار دائما
يعبثون داخل البرلمان ، لأنهم يعرفون أنهم يلعبون كما هو شأنهم عندما يتدافعون
بمناكبهم في الحدائق والساحات العمومية ، وهم في البرلمان حين يجلسون على
الكراسي الوثيرة ، لايتذكرون غير لعبهم الطفولي عندما يقفزون فوق الأسرة ،
فالبرلمان بالنسبة للطفل بيت للكبار لا يمكنه أن يكون له ذات يوم ، وإلا لكان
لهم الآن حكومة ووزير أول ، فما رأي فقهاء القانون في هذه الصورة التي
تختزل البراءة في السياسة ، والطفولة في المثول أمام اللاشيء ، لايمكن
للطفل أن يكون كما نريد ،إنه هو ، وكما يريد هو ، وما يوضع فيه يجعله
لعبة غير مستساغة في يد أخر لايألفه ولايحبه ، إن البرلمان ليس ساحة أو
حديقة أوغرفة نوم يمكننا أن ننوم فيها أطفالنا إلى أجل غير مسمى .
برلمان المرأة :
صوت المرأة في البرلمان شكلي ، يلج هذا المكان وهو كسير ومكلوم
ووراءه البلايين من الطابوهات والمحرمات ، ها هي المراة الآن قد دخلت
إلى البرلمان ، إنها لم تصل إلى هذا إلا عبر كوطا رسمت لها مسارها
وحددت لها بسب المشاركة من قبل ، قد يقول البعض : إن المرأة اقتلعت
حقها بأسنانها ، واجترحت وجودها بأظافرها ، لكنها ما فتئت لحد الساعة
تطالب بالمساواة والعدالة والإنصاف .
برلمان الرجل :
ليس هو كعادته هكذا ، إنه خيمة يجتمع فيها الناس من كل حدب وصوب ،
فيهم الزبائن البائعون والذين يشترون ، فيهم المتعلمون والأميون ، فيهم
المصلحون وغيرهم ، فيهم المصلون والسكارى و" المترفحون " وكل
السماسرة وآخرون ، تحت القبة تعقد الصفقات الجهنمية ، وفيها تؤمن
الخبزة لأصحابها ، يتكلمون كثيرا ، ويتضاحكون عندما تكون الكاميرا
لاتترصد وجوههم ، لكنهم ما إن تلتفت إليهم عدست المصور حتى يعبسون
ويكرشون ، أويضعون رأسهم بين أيديهم ليوهموا الناس بانهم يفكرون .
برلمان وصافي :

القضايا لاتلبى للناس في حينها ، فهذا المكان لايمكنه أن يعكس طموحهم ،
بل هو اختزال لصورة الآخر ليس إلا ، وبالتالي فالقانون في واد والبرلمان
الذي يجسد مشاكل الناس وآمالهم في واد آخر ، واللهم اجعل آخرنا أحسن
من أولنا ، أنت السميع العليم .
برلمان النيت :
كلما حولت أن أحلم بشيء جميل كالعادة إلا وتذكرت ذلك المرشح الذي يأتي
إلى الحي ، يخطب كما يحلو له ، يوزع الضحكات هنا وهناك ، يقبل الكبير
والصغير ، يسلم بيديه على المجنون والمتسول والمريض دون مركب نقص ،
لكنه ماإن يدخل البوابة المعلومة للبرلمان حتى ينسى كل شيء ، وينسى نفسه .
ملحوظة :
ماحك جلدك مثل ظفرك ، هذا ما جاء به الكلام الجميل من زمان الماضي
والله يجيب اللي يفهمنا وخلاص .



إن مايتداول في الأوساط العامة هو أنه ليس هناك برلمان بالمرة ، وبما أن

الأحد، 7 شتنبر 2008

محمود درويش .. ذاكرة يشتعل فيها بحر الشعر




محمود درويش .. ذاكرة يشتعل فيها بحر الشعر

محمد صولة

أيهذا الكائن الأسطوري الذي يموت في المجهول ويحيا في الذاكرة ، أجل هي السماء التي تمتثل لقضاء أرضها ، تنزل رويدا رويدا إلى حافة العلى ، حيث تنصب آ لهة الشعر خلودها نصا يستعصي على الخلق ، وما وراءه لاشيء ، هو عمق الفن والجمال والحب ، صوت اللامنتهى ، شساعة الأبدية ، ريح تتنكر لغلواء الزمن ، هذا الكائن الذي فاجأ الكلام ، وأي كلام يمكنه أن يستجمع فتيت لوحه الغميق ؟ وبأي صلصال يمكنه أن يمحو مجد الخراب الجميل وشغب الروح داخل قصيدة تكتب بدم الجسد ؟

هناك حجر على مشارف القلب يخبئ شيئا لايموت ، أبدا لن يموت كما مات طعم السؤال ،هل ذهب ذلك الصوت الدرويشي الآن ؟ بلى لم يذهب ، من قال ذلك ؟ كل الشعراء بعد النص الدرويشي سيخلدون إلى الراحة ، سيقلبون تراب الكتابة وسوف لن يجدوا شيئا ، غير طبقات تحاول أن تتآلف مع موادها العضوية ، لن ترحل ، لن تغادر ، ستبقى ، نصك جسد أبهى ،

كيف تخونك الحكمة وترغمك على

أن ترحل في الغياب ، وأنت تعيش في حضرته؟، هل تنسى ولك ذاكرة للنسيان ؟

ما أجمل أن يعيد المرء تشكيل وجهه ليرى نرسيسيته في مرآة الماء ، ربما سيخلع قناعه الأزلي ويعانق الحقيقة ، ليس هناك بالمثل ، ولست هنا الآن بالفعل ، لقد لعبت لعبتك الأخيرة ، وما تبقى لك فيها غير قرصنة استغوتك ، لم تكن امرأة قصيدة ، شيئا ما ماعدا جسدك ، أنت وحدك الآن تعرف كل شيء ، ، أنت الوصية ، أنت ما بعد البكاء والرثاء ، أنت أكبر من خطاب أمي يدعي السلام والديموقراطية في زمن عزت فيه إنسانية الإنسان وحريته المفقودة ، والقصيدة أنت ، ربما ، من يتقن فن الصمت في اللغة والخطاب والمعنى ، والآخر يستحلب عنفوانك ليزداد شراسة ، هو هكذا ، وهو كذلك ، نم ، إنك في الميراث الإنساني الجميل ، ولاتخاف ، كل الشرفاء سيحمون يواقيت شعرك في صدورهم كما حموا درر المعري والمتنبي وغيرهما ..ولأنك الآن هناك ، فأنا هنا أزداد ولعا بك ، وحبا فيك أضع شعرك إكليلا فوق رأسي وأمارس طقوسي الخاصة بي وحدي ، لأنك كنت في عزلتك وتحتضن أصوات وعذابات العالم المقهور .

الأربعاء، 30 يوليوز 2008

الحر بالغمزة ...

الحر بالغمزة ...
دكا كين حزبية بالجملة وسياسة شاطا ماطا
محمد صولة

أتصور أنني لا أعرف في السياسة أي شيء، ماذا يعني هذا في بلد يدعي أنه يحارب الأمية والتخلف وكل أشكال العبودية والشطط والمحسوبية ... ؟ قد أفترض العديد من الأسئلة لكنني أشعرأنني غير قادر على الإجابة عنها ، هكذا هي مشيئة فضاء ( سياسي ) أصبح من المستحيل على المحللين استقصاءه تحليليا ، وإذا كان البعض قد استخلص التباسه وتركيبه ، والبعض الآخر توصل إلى تقليديته وعدم اندماجه في التطورالحاصل في العالم ، فإن هذا ولد سرعة التداخل بين السياسي والإجتماعي والثقافي والفني –الجمالي ، وإلا بماذا نفسر الصراع التقليدي الذي تم تطويعه لصالح مرحلة أفرزت لنا في النهاية ما يسمى بالإنتقال الديموقراطي ، ثم بعد ذلك بدأنا نلاحظ كيف أن المشهد السياسي بدأ يتهجن ويتخذ طابع البلقنة ، فهذه الصورة كانت في مراحل ماضية ، هدفها هو الحفاظ على تساكن الطبقات الإجتماعية ، وعلى إخضاعها إلى منطق فرق تسد ، أو الإنتهاك والصيانة ، لاأريد أن أقول بأن الفاعل السياسي قد بات متجاوزا في فضاء تعددت فيه إمكانيات التواصل ، أو أن إطاره (حزبه ) أصبح بمثابة دكان من الدكاكين التي تفتح أبوابها في الصباح لتغلقه في المساء ، إنها دكاكين حزبية بالجملة ، كل طرف إلا وينتقد الآخر بعدم توفره على برنامج متناسق وخطة عمل مضبوطة ، ورؤية واضحة وهادفة ، هذا سلفي يسكن الماضي ولا يحيد عنه ،وهذا ليبرالي يحاول أن ينفتح على السوق وعلى تحرير اقتصادياتها ، وهذا اشتراكي مشتت بين الإجتماعي والماركسي اللينيني والماوي والغيفاري والوحدوي والقومي ، وهذا شيوعي يريد أن يستعيد سياسة الإتحاد السوفاتي التقليدية ، وهذا إسلامي يتغيا الخطاب الديني ، لست أدري إن أنا نسيت شيئا من هذا الخليط من الحراك السياسي ، ربما هناك أشياء أخرى ، قد تكون هي أبعد من الديموقراطية كلعبة سياسية ، وقد جاء في مقال للأستاذ عبد العالي بنعمور معنون ب "انتهى عهد الاتحاد الإشتراكي بمفهومه التاريخي " المنشور بجريدة الأحداث المغربية ، العدد3455 ، 24 يوليوز 2008 ، الصفحة 1 و17 ،ما يلي : في الواقع ،إن التباري الديموقراطي شيء إيجابي ، لكن على أساس أن يرتكز على اتجاهات فكرية وبرامج اقتصادية واجتماعية واضحة ، وعلى ضرورة قبول النتائج الديموقراطية بدون حسابات انتقامية ، ومع الأسف ، فالحاصل الآن هو العمل الشرس للوصول إلى السلطة من اجل السلطة " ،لذلك فهذا الحزب إذا أخذناه كنموذج فاعل في المعارضة الكلاسيكية ، وليس كتحصيل حاصل ، نجده قد فقد كل آلياته التكتيكية و الاستراتيجية ، وبات عليه أن يغير شكله ومضمونه ، خاصة بعد أن غادره شبابه الذين كانوا يشكلون قاعدته الصلبة ، وبقيت فيه إطارات تم إفراغها من أسئلتها وربطت بدواليب الحكم ، هذه الحالة السوداوية والنكوصية التي حدثت في جل الأحزاب المغربية هي التي أوصلت البلاد والعباد إلى هذا المصير الذي يتباكى عليه الجميع الآن ،والسيد عبد العالي بنعمور يقسم المشهد السياسي في نفس المقالة المشار إليها سابقا إلى :
حزب الإستقلال –إسلاميون ديموقراطيون .
حزب العدالة والتنمية – إسلاميون راديكاليون .
حركة لكل اليموقراطين – متجددون يجمعون بين الحداثة الإقتصادية والمحافظة السياسية .
الإتحاد الإشتراكي – تيار اجتماعي ديموقراطي حداثي ( يقول بنعمور كان عليه أن يجسده ) .
إن مانراه من تهافت على الكراسي ، و محاولة الوصول إلى الهدف عن طريق المحسوبية والزبونية ، وانبطاح المثقف وبيع وشراء الذمم وإقصاء البعد الإنساني وإفراغه من صدقيته وقوته ، يجبر الفرد على أن يفقد الثقة كلية في ما حوله من مظاهر ، ويعتبرها مجرد طرهات ومباذل لا تستحق إعطاءها القيمة الضرورية لها ، لذلك فهو يمقتها ( أي السياسة ومزاولتها ) ويقصيها ، فهل نضع بالضرورة السؤال التالي المرتبط بالتخطيط للمستقبل السياسي للمغرب ، وهو على الشكل التالي : هل هناك وظيفة محددة للأحزاب بالمغرب ؟ ربما أن الفضاء العام لايبشر بخير ، على الرغم من أن السيد الهمة يحاول الآن أن يملأ هذا الفراغ ، وإذا كان كما يرى البعض (فؤاد مدني في مقاله : حزب الهمة سيحمل إسم (( الأصالة والمعصرة ))ومؤتمره التأسيسي في نوفمبر، جريدة المساء ، عدد579 ، 29 يوليوز 2008 ، الصفحة 1 ) بأن منطق التحالفات بدأ يعد العدة لمواجهة التباس المستقبل ، وهكذا يتم تجميع كل من أحزاب العهد ورابطة الحريات والوطني الديموقراطي والبيئة والتنمية والمبادرة الوطنية للتنمية في سلة قطب واحد هو حزب الأصالة والمعاصرة ، ،أي تحت غطاء حركة لكل الديموقراطيين ، فهذه الأحزاب الصغيرة لم تكن لها قواعد لتخسرها الآن ، وإنما هي في الأصل مستعدة في أي وقت لإتمام تأثيث الصورة ، وهذا ما فهمه الجميع وترك اللعب السياسي بدون مشاركين فاعلين ، بل جعل الملعب فارغا حتى من الجمهور ، وإذا ما أردنا إدخال اللاعبييت القدامى من الإتحاديين والإستقلاليين والتقدميين ، فإننا نجد عناصر اللعبة خاسرة من البداية ، لأن جل هؤلاء فقدوا المصداقية وأدوات التأييد والضبط والتحكم ، وإلا كيف نفسر عدم نجاح الإتحاديين في إتمام مؤتمرهم ، وتهرب البعض من أنجاز مؤتمره في موعده المحدد ؟
خلاصة القول يمكن التوقف على المزالق التي لم يصححها البعض ، وعلى نزعة الإستعلاء التي مارسها السياسي على المواطن ، لأن الديموقراطية إذا لم تتحقق في الحزب لايمكنها أن تتحقق في المؤسسات التي يتم التخطيط لها مسبقا ، فهذه الأحزاب غير المتوبلة هي زوايا منغلقة على قدسيتها ، ولا علاقة لها بالواقع المعيش ، وحتى الذين ينعتوننا بالتيئيس والعدمية هم لا يقرؤون المجتمع بمنهج تحليلي متكامل ، لأنهم لا يرون إلا أمامهم والكراسي التي يجلسون عليها ، فما هو مشروع الدولة الحديثة ؟ وما هي استراتيجياتها للتغلب على مخاطر المستقبل؟ ، إنها أسئلة كبيرة وتتطلب أجوبة في مستواها .

السبت، 12 يوليوز 2008

رمزية المحفل الطقوسي عند اعبيدات الرما

رمزية المحفل الطقوسي عند اعبيدات الرما

د . محمد صولة
تقديم
لقد استطاعت الثقافة الرسمية بسلطتها الإخصائية للرمز المتداول شعبيا، أن تقصي شساعة أحد مكوناتها المستعارة تراثيا وعادات وتقاليدا، لذلك كان من الضروري أن يتم الإعلان عن منطق القبول داخل المؤسسة المحكومة بالاعتراف وإزالة الشبهة والرضى، وهو ما جعل الدراسات الفكرية السابقة للثقافة العربية أن تحصر أبحاثها في المقبول عند الخاصة، وفي ترشيد وعي العامة للحفاظ على النموذج المعترف به، فكانت طقوس عديدة تتعرض إلى المحور والإرجاء، وتلاقي من العنف ما لا يمكن الحديث عنه أخلاقيا، وهكذا تم تغييب مجموعة من الطقوس والاحتفالات بشكل تام وقسري دون التفكير في إعادة الاعتبار لهذه الظواهر، وحتى إذا ما ظهر اهتمام بذلك، فهو يكون من باب المحاياة ، والفكرة ليس إلا، بحيث لم يتم استيعاب ثقافة المراحل السابقة على أساس أنها تمثل أصوات الأمة، وتخدم وظائف متعددة اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية، وبالتالي كان مآل هذه الأشكال البدائية/ الظواهر الطقوسية والاحتفالية التعرض إلى الاندثار والتشويه.
إن ما أريد مقاربته هنا، يتمثل تحديدا في ظاهرة اعبيدات الرما، كشكل من أشكال الاحتفال الفرجوي العادي والغريزي، وكطقس يشمل الكثير من العلامات والرموز الدالة على ثقافة مرحلة ما من مراحل الثقافة العربية عامة والمغربية خاصة، فما يثير في الظاهرة هو ارتباطها بالترحال والأرض كمكان يمكن تجسيده في خلوات داخل الأحياء، وترديد أغان متنوعة تهتم موضوعاتها بالإنسان والحيوان وبعض التحولات التي تعرفها المجتمعات وتوثقها عفويا، وظاهرة اعبيدات الرما لم يتم دراستها كما حصل مع الحلقة وسلطان الطلبة والبساط وأبي الجلود في المغرب، وإنما اقتصرت الإشارة إليها عند بعض الإثنوغرافيين فقط الذين حاولوا فهمها من خلال اعتبارها طقسا استعاريا يقوم على الحكمة والتوجيه تارة، والتنكيت أو الفكاهة السخروية تارة أخرى، مقابل ما قام به الذين اهتموا بالتاريخ والأخبار والسير والملاحم، فهم انحصروا في إهماله وعدم دراسته، باستثناء ما قدمه المستشرف لا ووست في كتابه "قصص المغرب البربرية"، وأشار إلى هذا الأستاذ حسن بحراوي في إحدى مقالاته التي تهتم بإثنوغرافيا المسرح المغربي[1]، وإذا كان المحفل الطقوسي لعبيدات الرما لا يقف عند حدود زمانية معينة ، فإنه يحتفي بالمكان، ويشيد منه فردوسه الطوطمي الذي يقيم فيه شعائره، ويقدم من خلاله قرابينه ويحصل على منح التبريك، لذلك نرى أنه أكثر ارتباطا بفضائه الطبيعي وحاميا له، ومعبرا عنه بعفوية على درجة يصير حدثا مؤسطرا، وموازيا للوقائع الكبرى التي يشهدها المجتمع،بطريقة يصعب تأويل تشكلها وفهم علاقتها المتداخلة، ولربما يكتب هؤلاء- أي اعبيدات الرما- نصوصهم انطلاقا من هاجس الخوف من المجهول، وهو المتمثل أساسا في مواجهتهم لثبات الطبيعة وصمت الإنسان فيها، ولعلاقتهم المركبة جدا مع الوجود.

سلطة الطبيعة واستعارة المكان عند اعبيدات الرما.

لاشك أن علاقة "الرامي" مع هذا المكون كانت عميقة جدا، ولم لا نربطها باتحاد صوفي ؟ بحيث لا تحضر إلا في ترحاله الدائم، لذلك فالمكان الطبيعي بالنسبة إليه، رمز من رموز هذا النزوع الاغترابي الذي يحسه، إذ أن ارتباطه به اتصال وانفصال في نفس الوقت، وهو انفصال عن المكان الواقعي واتصال بمكان رمزي، يختزل الطبيعة في أهم مكوناتها، وهو المتمثل في التراب كأصل، فلا يمكن أن تمتد احتفالات "اعبيدات الرما" إلى النقيض لهذا، بل تبقى حريصة على هذا الأصل البدئي، وإذا كانت الروح الأبدية قد انفصلت عن أصلها وتحن إلى بدايتها، فإن "الرامي" هو كذلك يتشوق إلى أصله الطبيعي، ويريد أن يسكنه رمزيا، لأنه هو الأخير الذي سيحتضن جسده، هذا العنصر الطبيعي الذي أدى إلى موت الأرض، وهكذا استقر الفعل عند الإنسان في محاولة التحكم والتنظيم، لكن ولادة الإنسان كانت تتمرس على صوتها الأبدي[2]، ومن هنا ارتقت هذه العلاقة إلى مستوى آخر، تجلى في فهم الطبيعة على أساس أنها فضاء/ سكن رمزي بامتياز ، وليس علامة قد ترتبط ببعد بسيط ، أو أنها "مثيرات لحظية تنتهي بانتهاء اللحظة التي أنتجتها"[3]، فالطبيعي كاستعارة للمكان لا يمكن فهمه إلا من خلال علاقته بمكوناته الوجودية المتعددة وأشكال التلقي لها ، فهل يمكن إذن فهم هذا المعطى/ الأثر الفني من غرضه الأول[4]، وإذا اقتضى الأمر ذلك، قد يصبح هذا الأثر الفني فاقدا لدلالته عندما يتجزأ من غرضه الأول، نتيجة إذا لم يستطع التاريخ حماية هذا الغرض ضمن نفس السياق[5]، وبهذا فإن المكان الذي يصاحب "الرامي" هو ذاته، مكبوته ،مسعاه إلى اللانهائي، رمزه الأبدي الجوال والخاضع إلى التحول الأسطوري، ولا خير أن نجد "اعبيدات الرما" وهم يصورون المكان، يعيدونه إلى أصله، وبالتالي يرجعون هم أنفسهم إلى ذواتهم ، وذلك من خلال أن ما يقع له ما هو إلا خرق لاتفاقات تم الانضباط لها، وهذا الخوف من المجهول يختزل في إحراق رمزية المكان/ الغابة كفضاء يشمل كينونة "الرامي" ويحمي سره من الذيوع ، لهذا فهم يقولون: جيب على الغابة/ فيها جرات العلامة/ في عوينات لمانيع/ حركوها لمصاكيع/ الخير عليه تديع/ البلوط مع الفكيع/ طارت هبهابة/ حركت كاع الغابة/ اتحركوا البلايص/ فيها بنادم عايش/ اتحركوا الخيام/ اتحرك حتى الحمام/ اطفات الناس وعيات/ وكعدوا داروا الصفوف/ بقات الناس تشوف/ تحرك حتى الحلوف/ هذا الشي مكتاب/ تحركوا حتى الذياب/ تبقاي بخير يا الغابة[6].
إن الربط هنا بين الطبيعي/ الوجودي والتخييلي/ الميثي يؤكد على أن هناك صورة دالة على وقائع مجتمعية لا غير، لكن الأساس، ومن مستوى تأويلي يؤدي وظيفة تتجاوز الذات إلى محاولة دفعها لبناء هذا المفارق بين الاتصال والانفصال، بين الواقعي والغيبي، بين أن يكونوا هم كرماة أو لا يكونون كذلك ، ثم إن رمزية الاحتراق هنا تقيدنا إلى النار كأصل للصراع الأبدي، لخلق لإبليس، مقابل التراب الذي هو أصل لأدم، هذا الصراع لا يظهر إلا في مرحلة ليلية، بعد أن يجتمع الناس في خلاء ويتحلقون حول "اعبيدات الرما"، هؤلاء الذين يلعبون بكل شيء، بأجسادهم، بعقل الذكر والأنثى، بخيال الطفل، بأشياء الكون، وكأنهم يمارسون بداهة أفعالا سحرية خارقة لم يألفها منطق الإنسان، فهذا له علاقة بسلطة الطبيعة، بعد أن يتم تحطيم طوطمها وأسرار مقدساتها، وله ارتباط أيضا باستعارة المكان كحاو لرمزية شمولية، يمكنها أن تكون مألوفة في النهار كجمع المؤونة الليلية، وخارقة ليلا خاصة أن "الرامي" يصبح مالكا لأسرار الوجود، وهو هنا يخرق العرف المبني على قاعدة الاعتقاد بالفعل بين الواقعي/ المادي والخيالي/ الروحي، إذ يعي كذات بصيغة الجمع لها نفوذ عجائبي، تمارس السحر والخرق، تنتسج المتخيل من عدم، وتحبك الحكايات التي لا تنتهي، لأن ما يساعدها هو لحظة الليل الذي جرى فيها الخلق، ويشير إلى هذا "الرامي" عندما يشعر بأنه لا يريد الانفصال مرة ثانية عن طبيعته، وهو اللي يقول: "كولو للغابة/ يلا سمحت ربي سماح/ كيف سخيتي بفراقي ثاني"[7]، لذلك "فاعبيدات الرما" يخلقون عالمهم ليلا، ويتمثلون العملية في ذات اللحظة، وهو ما جعلهم مقربين إلى ما هو مستور و مهمش، وتوجد لديهم قرابات روحية مع أولياء وسادات وشيوخ صوفيين، وإعادة خلقهم لمتخيل ما، هو في الأصل نوع من تكسير رمزية سلطة الطبيعة، مقابل إعطاء المكان صورة قابلة للتحول ليلا، وفي التصوف نجد هذا، خاصة عند ابن عربي في كتابه "الفتوحات المكية" إذ يقول: "خلق الله العالم في ظلمة[8] ولهذا نلاحظ أن "الرما" غالبا ما يسكنون في أحاديث المرأة، وربما هذا له امتداد في الثقافة العربية، باعتبارها تكرس ربط كل ما يتصل بالمرأة بالليل، و"الرامي" يعود إليها ليحقق رغبته الدفينة، لأنها انشطرت منه فأحب هذا الألم الذي هو سكنه، فكان شوقه إليها كشوقه إلى طبيعته الأولى[9]، هكذا إذن يبرز المكان/ الغابة عند "اعبيدات الرما" كاختزال للطبيعة الليلية، وما يمكن إضافته إلى هذا ، هو التركيز على عنصر الشكل بخصوص المكان، الذي أشرنا إلى أنه يكون في خلاء، أو فسحة، ولابد أن يكون دائريا، بحيث إن هناك ترابطا بين الداخل والخارج، أي بين الباطن/ السر والظاهر/ الكشف، وإذا تأملنا دائرية المكان هنا، نجد أن "الرامي" داخل إطاره، ينقل لنا مجموعة من المعلومات والأخبار، فلا حسيب ولا رقيب، تنزل السماء إليه، وتصعد الأرض أمامه، وتتحول الأشياء وتمسخ، لذلك فالدائرة في متخيل "الرامي" لا نهائية، يمكن أن يخرقها إن شاء، وهي تأمل وجودي لسلطته الطبيعية الأولى المبحوث عنها داخل إطار الدائرة المتوهمة التي تحمل دلالة وجودية، وقد لاحظنا هذا عند الصوفي من خلال حديثه عن الحروفية، وأشكال تناسقها، "إلا أن تلك الدلالة الوجودية المباشرة تفتحه نحو دلالة رمزية وخفية وأكثر شمولا وسعة تنقل العارف عبر وثبة ممتدة إلى فضاء الكونية والمطلق ، حيث يظهر للصوفي أن الجاهلية الخاصة بالشكل الوجودي الذي يتأمله ، ليست سوى امتداد لجمالية أوسع هي بالضبط جمالية الذات الإلهية التي تتجلى عبر ذلك الكائن المحدود"[10]، وليس شكل الدائرة، إلا مدخلا للجسد الرمزي الذي هو حضرة الرامي/ الشيخ، مقابل أنه محصن ضمن قلعة الرما/ الأحفاد والمريدين، فلا أحد يمكنه أن يتخلى عن الآخر، لذلك نجد أن الوعي بهندسة الدائرة يعود إلى الاكتمال والمطلقية، أي إلى العالم الفوقي الروحي، بحيث إنه عندما يضع "الرامي" خطا دائريا بينه والآخر، فهو يطمح إلى تعضيد علاقته بذاته، مع محاولة ترك هذا الآخر يندمج معه بطرقة البحث عن مكامن السر والسحر، ولا تبدأ وصلة اللعب عند "اعبيدات الرما" إلا عندما تستكمل الدائرة دورتها وشروطها، ولهذا يظهر الرامي عابثا بما يصل إليه من أشياء، ولا هيا بكل الخطابات، حيث ليست له بداية، أو نهاية، " ذلك أن كمال الدائرة يأتي من استحالة تحديد بدايتها ونهايتها، بمعنى أنه ليس للدائرة بداية أو نهاية كما أن ليس لله (سبحانه) بداية أونهاية، من جهة أخرى، تشكل الدائرة كلية حاوية لكل الموجودات، إذ لا شيء يوجد خارج دائرة الكون، ولا شك في أن هذه الصفة من صفات الأولوهية"[11]، لذا فالمكان الدائري يمثل سلطة رمزية موازية لسلطة الطبيعة القاهرة، وهذا يبرز في صورة تحد للرامي أمام المتحلقين، يقول في إطار لازمة تتكرر، كلما شعر أنه يتطرق إلى تيمة جديدة" إلا كنت نظام/ جيب على الغابة"[12]، إذ أن محاولة تجاوز الرامي لهذا الانتظام تجعله إنسانا يقيم في شذوذات لا يفهمها غيره، وحالته تحتل في عجائبية حركاته ولهجته وعلاقاته مع المجتمع والمرأة وبعض الأشياء التي يخلق منها معبرا إلى عمقه الذي هو أصلا خلخلة وعي الآخر.
- دلالة الأسماء بين الرمزية والمخيال والواقعي:
بدءا نحدد الإطار المنهجي الذي نحاول من خلاله إقرار التكامل بين الرمزية (symbolisme) والمخيال (Imaginaire) والواقعي (Réel)، باعتباره سندا يتحقق فيه انسجام الخطاب المحمول، فما أن يتم تدمير كل أبنية النص الشفهي أو المكتوب أو البصري، حتى يبدأ التفكير في فهم وتفسير الرمزي كإشكال يمسك به في المخيال كممكن، وعندما تقام عملية التدمير للمرة الثانية، يستأنف أيضا عمل المخيال للحصول على صورة واضحة تحاول جاهدة تنظيم الفوضى واللاتمييز، كمنجزين يستعيدان هيكلة مغايرة لا تعكس إلا ما هو موجود في سياق العلاقة بين الكائن والممكن، وبهذا تكون كافة أشكال الترابط بين الرمزية والمخيال معرفة جديدة للواقعي بتعبير نيكول إيفرات[13]، ولا يمكن أن نظن بأن تمثل الأسماء الواردة في النصوص الشفهية يرتبط بما هو عفوي، وإنما هو رمزي يشتمل على شذوذات إيحائية متعددة، قد ترتبط بالمقدس، وبالطبيعي، وقد تختزل في أسماء لرجال يمثلون سلطة ما في مرحلة ما، كما هو الشأن في العيطة الحصباوية، عندما يتم ترديد هذا الدور على لسان الشيخة حادة الزيدية (1841-1924) والمشهورة بخربوشة: "المعاشي، سيدي سعيد... مول الزيتونات
الرتناني سيدي الحسين ركراكة مجموعين
مول العلامات زين اللامات.. مولاي عبد الله بن حسين
القدميري، سيدي عمر.. أمولى حمرية[14].
إن مجرد ذكر هذه الأسماء، يدل دلالة واضحة على رمزية معينة لها في مرحلتها، ولعل هذا عندما يقرأ أنثروبولوجيا، يصبح انعكاسا لخلفية تحكم فيها الرمزي في المخيالي، وبالتالي يصير الترابط بن الاسم المحمي به مواجهة ضمنية لسلطة رمزية ضاغطة تتمثل مباشرة في القائد، فبعد الألم التي تعانيه خربوشة، ترجل عن البلد، وتترك الكل لسلطة القائد، ولا تحمل معها إلا معاناتها:
"أش صبرني على فراق الحباب أسيدي.. راه الغدر عيب يا قليبي..
راه، الفراق اصعيب آسيدي، راه خويت بلادي، راه السبة عليه[15]..
أما إذا عدنا إلى "اعبيدات الرما"، فنلفي تعددا في توظيف الأسماء، إلى درجة أنها تغرق في المحلية ولا توضح دلالتها، فمن أسماء الرجال التي تأتي متتالية وخارقة للرمز، أي من رقم خمسة إلى رقم ستة
"كانوا هما خمسة/ وقيلة ستة
معهم علال/ والشيخ بوعزة
معاهم حتى موسى/ والشيخ بن عباس
ومحمد وناصر/ معهم حتى البطاش
مرسولو ما يبطاش
الصيدة بالقرطاس
الوحش ما يخطاش
والرامي..."[16]
ومقابل هذا أيضا نقف على أسماء تلتصق بالطبيعة وأشيائها، وتجعل منها محكيات لا نهائية، بحيث لا تتوقف عند دلالة معينة حتى تنتقل إلى أخرى، لكن ارتباطها مع أصلها لا يدفعها إلى العميق، أو مواجهة المجهول:
"حيحنا في الشعاب الحومر
والو ما لقينا
حيحنا في الدرية
وف الضاية الحايلة
حيحنا ف كعبوش
فيها لقينا الوحوش[17]"
إن ما يسره "الرامي" وهو يتحدث عن الاسم الذكوري والطبيعي يتمثل في استحضاره لثنائية الظاهر/ الباطن التي طالت الكون، وتركت أسئلة كانت أشد تعمقا في التأويل الصوفي : لذلك فعلاقة "الرما" بالوادي ليست عادية، تذكرية فقط، أو مرجعية بالأساس، إنها محاولة لإعادة فهم طبيعة العلاقات الرمزية التي مورست في أشكال طقوسية بدائية، وهو ما يفسر أن حضور أسماء الحيوان إلى جانب أسماء المذكر والطبيعة،يتم قبوله من منظور يضاعف من احتمال مواجهة المصاعب والآخر، فالوادي امتداد لكينونة "الرامي" وشعور بالحياة أكثر من الموت:
"طليت على الوادي تمة تفكرت جوادي
أسيدي ذاك الوادي مزينو بمالي
حاشا من عند الله حتى يبقى خالي
فيه سيد العربي الزين البوهالي
مدفون فيه اشبيشب ياك طويل وعالي
ملي مات شبيشب وأنا ما تزهي لي" [18]
أما الحيوان فيندرج في مجمل النصوص الشفهية كتعبير طوطمي، كما هو الشأن في النصوص القديمة التي وظفته، وإذا كانت مجمل الدراسات قد قلصت من هذا البعد الطوطمي، واعتبرت أن الحيوان كان شريكا للإنسان في الحياة، أو بالأحرى متدخلا فيها، فإنها لم تستطع أن تؤكد على نوعية العلاقة التي جمعت بينهما، وهكذا بقيت الصورة في حدود تبادل الاستفادة من التجارب،كالتلطيف الذي كان لابد أن يحضر في صراع الأشخاص أو النخب ، وتحويله إلى هامش سوسيو ثقافي، إذ يصبح فيه "الحيوان عند "الرامي" تابعا للإنسان، وشيئا من أشياء الطبيعة:
جيب على الغابة
فيها سطيلا نطيلا
فيها اميمت لحسن
كلها يلغي بلغاه
موكا هي الودانة
فيها الفراخ لغلاظ
الغابة فيها الذياب
بوعميرة هو الوجاب
يقلز في التيقار
ويبيض على لقوار
وما يكل غير العيانة
فيها تفرما
عليها وصاو الرما
الغابة فيها غراب
الطير اللي ما عندو صحاب
تبقاي بخير يا الغابة [19]
إن الترابط بين الرمزي والمخيالي ينبني على أساس التدمير، فكلما تم هذا الفعل إلا وتحقق منسوب الواقعي، بحيث إن حضور كل هذه الأسماء الطبيعية والحيوانية والذكورية، ما هو إلا واقع حقيقي يتم تعريفه على مستوى رمزي، من خلال الدفاع عن الذات وحماية كل عناصر الوجود التي لها علاقة بها.
- المرأة كمدلول طبيعي شكلي .
إذا كانت المرأة قد تعومل معها بدرجة غير متساوية مع بقية العناصر الأخرى، فإنها كانت عند "الرامي" تمثل صورة شكلية لعلاقاته مع الوجود وذاته، إذ أن وظيفتها كانت للمتعة والغريزة فقط، بحيث إن كل ما اختزنه "الرامي" في الطبيعة/ الغابة من أسئلة وجودية، لا نجده يحضر في تعامله مع جسد المرأة، لذلك فاستحضاره جاء عفويا له ومرتبطا بخارجه، والوثائق التي بين أيدينا تثبت أن وضعية هذا الجسد لم تكن إلا للاستمالة والاستغواء، فالكتب القديمة لم تهتم به إلا من مستوى المحظور والممنوع والمحرم تارة، والهامش والمنسي تارة أخرى، وإذا كان هذا الكل من هذين المؤشرين يؤكد ذلك، فإن هناك من يعتبره من المصائد التي وظفت في النصوص القديمة لتظهر الصراع الأبدي بين المذكر والأنثى، وقد كان تداول رمزي لهذا المنحى، وتمثله كل من أحمد الثعلبي والإمام أبو حامد الغزالي وزكريا القزويني في كتبهم[20]، وتمت الإشارة إلى أن إبليس "لما نزل إلى الأرض قال: يا رب أنزلتني وجعلتني شيطانا رجيما فاجعل لي طعاما، قال: ما لم يذكر اسم الله عليه، قال: فاجعل لي شرابا، قال: كل مسكر، قال: فاجعل لي مؤدنا ، قال : المزامير ، قال : فاجعل لي قرآنا ، قال : الشعر، قال : فاجعل لي حديثا، قال: الكذب، قال: فاجعل لي معايد، قال: النساء"[21].
إن خارج الجسد كما تم احتواؤه في نص "اعبيدات الرما"، يعضد هذا المنظور ويكرسه، وداخله يبقى مختزنا لأسراريته، لذلك من البديهي أن نجد التضاد كبنية يحملها الجسد بين سطحه وعمقه، فالسطح عورة أخلاقيا، محرم اجتماعيا وعرفيا، أما العمق فيؤكد انتماءه إلى قيم هي بالأساس امتداد للأول، هكذا أنلمح تعاطي "الرامي" للعلاقة بينه والجسد من رؤية تغزلية مناوئة، يقول:
"بلغو مر سولي لدوك البنات
دوك الركاكات المسلوتات
في المحطة كانوا جيراني
كانوا هناك عشران معايا
حبكم جار علي ولا عندي نوبة
هذي كية مكتوبة" [22]
وعلى الرغم من هذا، فإن الرامي عندما يرتبط بالمرأة كقيمة أيقونية لها دلالة شكلية فقط، نلاحظ أنه يجعلها مرتهنة بما هو ذاتي، ويتحدث عنها من مستوى تشييئي كتشبيهها بالحيوان (السرادا) أو آلة لإعداد الشاي (براد)، يقول الرامي واصفا جمال المرأة:
"فين ما نشوف الزين ندي ليعتو
الزين الركيك ظاهر من تحزيمتو
لبنات كيف السرادا خيي كلا وقيمتو
العيون يبانو كوحل والعنق بشمامتو
فمها براد أتاي مشحر بيقامتو
كيف يدير مول "الزين اسيدي حتى يفارقو"[23]
ويقول أيضا:
"الصدريبان لي مشح كاتبة فيه لقراية
الفم ألالة أحمر تكول ليه كوار الودايا
لالة راني مريض أجي وري لي الدوايا"ا[24]
وما يمكن الوقوف عليه، هو أن "الرامي" له رؤية ذاتية تتمثل السخرية أمام جسد غير مطاوع، وليس هذا الأخير إيجابيا أو سلبيا، وإنما قد ينفتح على أبعاد خلافية تثير حفيظة "الرامي" وتدفعه لمقاومته، ونزعه لمواجهة تؤكد أن وضعيته الاعتبارية غير واضحة، وبالتالي فهو إما يعود به إلى أصله الواحد، أو يدحوه عنه.
"فمك اضيق من الخاتم عينيك اوسع من الكأس
علاش عليك بالجماعة ديري واحد كي الناس"[25]
أو "الزين راه مخربقني ساكن في الشلوح
شوف الطفلة كي الغابة سيدي غربلها ولوح"[26]
إن كل هذه التيمات التي تناولناها، لا تحصر لنا علاقة "اعبيدات الرما" بواقع مجتمعهم، ولا يتمثلهم لعوالم معينة، بل حاولنا أن نقارب بعضا من المداخل التي اختزنتها الأغنية الشعبية، كنص شفهي يعبر عن وعي يتسم بالمحلية وبالعمق حسب الظرف الاجتماعي، لكن تبقى الأسئلة القوية مترجحة بين القبول والرفض لهذا الوعي، بحيث لا يمكن قبوله كمعطى ساذج مألوف، ولا رفضه من منظور أنه مجرد بقايا لذاكرة تقليدية جاهلة، بل لابد من تقويمه كنسق ثقافي يختزل سيرورة مجتمعية ويطور أفق ترحاله ضمن دراسات إثنولوجية وأنتروبولوجية وسوسيولوجية عميقة وذات أهمية خاصة بالإنسان في علاقته بالجماعة .
هكذا تكون ظاهرة عبيدات الرما بمنطقة الغرب شراردة بن احسن لها خصوصيتها ، إذ يدخلها البعض في الأدب الشعبي 27 ، أو في فن العيطة ، يحدد حسن نجمي هذا اللون من العيوط قائلا :" وتعرف العيطة الغرباوية أساسا بمتتالية من المتون الشعرية التي تقدم جملة من المدائح والمقاربات الوصفية للغابة ، بل يمكننا أن نتكلم عن ثيمة مركزية من ثيمات العيطة في المغرب مخصصة للتغني بالفضاء الغابوي ؛ وذلك ضمن نسق الهيت بتعدد أساليبه اللحنية والإيقاعية ( الكلبي ،الحلوفي ، الحدادي ، القرادي ، الفرادي ، الشدادي ...)، كما أن أشياخ الهيت يميزون على المستوى الشعري في أغاني الغابة بين نمطين : نمط حرفي ( بترقيق الراء ) ونمط ثان يطلق عليه غابة الغيوان" 28 ، لذا فهذا اللون من الكتابة /الإنشاد الشفهي –إن جاز لنا القول بذلك – يمكن اعتباره يشخص كل ما يرتبط بأوضاع المنطقة ، ظاهرها وباطنها ، وبالتالي فهو اختزال لصورتها في حدود بيئتها ، إذ يرسم أفراحها وأتراحها ، وهذا يظهر من خلال محافل الإحتفالات والطقوس والعادات والمواسم .

إحالات وهوامش .

1- حسن بحراوي إيثنوغرافيا المسرح المغربي الغابة المرأة والمجتمع نماذج من كلام الرما أنوال المغرب يوليوز 1992, العدد 805، صف حة 8.
2- G Bataille. L’expérience Intérieure Gallimard. 1995. Paris P.93
3- أمبيرتو إيكو. التأويل بين بورس ودريدا. ترجمة سعيد بنكراد علامات المغرب. العدد 11. 1999. ص21. أنظر الهامش رقم 4 للمترجم بالتدقيق.
5-4أنطوان كومبانيون. الفيلولوجية والتأويلية. ترجمة محمد الولي علامات. المرجع السابق ص. 42
7-6 حسن بحراوي إتنوغرافيا المسرح المغربي. مرجع سابق ص.8
8- لا ينطلق إبن عربي من فكر ميتي فلسفي ، وإنما يتحدث من منطلق التأويل الرمزي الذي يشتغل على لغة تقرب بين الظاهر والباطن ، دار صادر بيروت (دت)
9- ابن عربي الفتوحات المكية. الجزء الثاني . ص 56
10- منصف عبد الحق. الكتابة والتجربة الصوفية – نموذج محيي الدين بن عربي ، منشورات عكاظ. الطبعة الأولى . 1998 ص. 81
11- عبد الصمد الديالمي. نحو ديمقراطية جنسية إسلامية. مطبعة أنفو- برانت ، الطبعة 1 ص. 41
12- حسن بحراوي إثنوغرافيا المسرح المغربي. مرجع سابق، نفس الصفحة 8
13- نيكول إيفرات- دسمت. الرمزية والمخيال والواقعي ترجمة سعيد بنكراد. علامات مكناس/ المغرب. العدد 3 السنة الأولى. ربيع 1995 . ص 70- 71
15-14- المهدي الكراوي. خربو شة. الحقيقة والمأساة. جريدة الاتحاد الاشتراكي. المغرب عدد 6945. غشت 2002. ص.10
18-17-16 -19- حسن بحراوي. إثنوغرافيا المسرح المغربي .مرجع سابق . صفحة .8
20- أحمد الثعلبي. قصص الأنبياء المسمى بالعرائس. دار الرشاد الحديثة . بيروت د ت ص 25
- الإمام أبو حامد الغزالي. مكاشفة القلوب المقرب إلى حفرة علام الغيوب. تحقيق محمد رشيد القباني . دار إحياء العلوم. بيروت الطبعة 3 .1987 ص 61-62
- زكريا القزويني . عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات. تحقيق فاروق سعد. دار الآفاق الجديدة بيروت 1973 . ص 388.
21- محمد أسليم. ذاكرة الأدب. مطبعة سندي. مكناس 1999 الطبعة الأولى ص 49 أنظر خصيصا الهامش رقم (34).
22- 26-25-24-23حسن بحراوي. إثنوغرافيا المسرح المغربي. مرجع سابق . ص 8.
27- سعيد علوش الأدب الشعبي في منطقة الغرب(،نموذج اعبيدات الرماية ) .كتاب منطقة الغرب ،المجال والإنسان ، منشورات كلية الآداب والعلوم لإنسانية بالقنيطرة ،أكتوبر1991
28 - حسن نجمي . غناء العيطة . الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب .الجزء2 .دار توبقال للنشر. الطبعة 1 صص.108-109 .

الثلاثاء، 1 يوليوز 2008

الحر بالغمزة

رسالة إلى كل الديموقراطيين صي...ك الحر بالغمزة..
= محمد صولة
من الضروري أن يتساءل المرء عن هذه الديموقراطية التي أصبح يتشدق بها كل من هب ودب في الساحة السياسيةالمغربية ،إذ بات بالأحرى أن يتم تأسيس حزب أو نقابة هكذا ، وتسند لفظة الديموقراطية إلى الإسم المختار ،فعلى الرغم من أن أصحاب المشروع – إن كان لهم مشروع – لاعلاقة لهم بهذا المفهوم ، وبالتالي فهم لايأخذون منه إلا القشور ، فلننظر إلى الأحزاب والنقابات وباقي الدكاكين السياسية الأخرى ، نجد أنها لا تمارس من الديموقراطية إلا الخطاب فقط ، لذلك فالكل يريد أن يتحول إلى كرسي الزعامة ، ما دام أنه سيستفيد منه الخير العميم ، والقرابة لأهل الوقت ، من منا إذن لا يريد أن يكون ديموقراطيا ؟ ومن منا لايريد أن يمارس الديموقراطية ؟
إن اليموقراطية كما نفهمها جميعا ،هي ممارسة الشعب للحكم بنفسه ، لكن عندما تسند الأمور إلى غير أصحابها فلننتظر الساعة ،تصوروا معي أننا في مكان ما ينتخب فيه الحاكمون علانية ، وبدون خوف أوإرهاب أو مركب نقص ، ولنتصور أيضا أننا نصوت على الذين يخدمون المصلحة العامة وليس الخاصة ، كل هذه الأمور يمكنها أن تمر كما نريدها ،لكننا نجهل الألفاظ التي باتت تستعمل للحفاظ على الكراسي واستمرارية الحكم من مثل التوافق والتراضي والحكامة السياسية والإنتقال الديموقراطي والمواطنة الحقة والتناوب السياسي والإجماع السياسي والمصالحة وجبر الضرر والتوازنات الإقتصادية والمصلحة الوطنية وهلم جرا ، كل هذه الكلمات والعبارات لم تستطع أن تخدم المجتمع المغربي ، لأنه ربما يمتلك خصوصيته لوحده ، وليست هناك ديموقراطية تشبه ديموقراطيته ، وهذه الأخيرة يمكنها أن تمارس على وجه الإستعلاء ، كأن ترتبد بالأمر والوعيدوالتهديد ، أو أن تأتي من القاع ، خاصة عندما تكون الدولة قادرة على أن تنفتح على ما كرسته في ماضيها من قمع واضطهاد وتنكيل ، لنأخذ مثلا نماذج من الواقع ، كيف يمكن التعامل مع ملفات المختطفين والمقتولين والمنفيين عسفا ؟ هل نعتبر أن كل الذين يحلمون بالهجرة إلى العالم الأوربي مجرد خدعة وستزول ؟ لماذا لم تفكر الدولة في مسألة المعطلين بجدية بدل سياسة ربح الوقت ،أو دفن الرأس في الرمال كالنعامة ، هذه عينات من الظو اهر الإجتماعية المعاصرة والحديثة إن أمكن ( صورة التعليم المظلمة في المغرب المعاصر حينما يعنف الأستاذ ذاخل المؤسسة بقوانين لاتحميه ، أو عندما يصبح الدكتور عرضة للهراوات و ضحية سياسة الإقصاء الإجتماعي كخريج أو كطبيب ....) ، لهذا أو ذاك وكأننا نريد من الديموقراطية أن تكون سروالا يلبسه كل على مقاسه ، ليست هي الفكرة هكذا إذن ، إنها عصارة مجهود أمة خرجت للتو من البداوة إلى المدنية ، و بفعل الإرتكاس الذي عاشته الحضارة اليونانية ،وما بعدها ، وبفضل النهضة المعاصرة والحديثة برزت فكرة الديموقراطية كمنفذ عقلاني ومنطقي يمكنه أن يساعد الشعوب ، أو بالأحرى الأمم في تحقيق رغباتها الذاتية والعامة ، فهل الديموقراطية فكرة ميتافزيقية أم هي إلهية ؟ وللإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن نعيد قراءة كافة الأسئلة الفلسفية وغيرها ، وذلك دفاعا عن فن التأويل ، ونقصد بذلك ما يمكن أن تمنحه الهرمينوطيقا للمعارف كمقصديات ناجعة ، لهذا ففهمنا للديموقراطية الحالية هو فهم لا يخرج عن تصورنا للواقع كما هو ،وهذا الواقع ليس متحكما فيه مما نريد ،بل هو مجرد تواطؤات وإرغامات تستعصي بعض الأحيان عن الإمساك بها .
مقابل الديموقراطي نجد الديكتاتوري ، هذا الأخير الذي هو متشبث بكرسي الحكم ، ويزعم أنه يحيط بكل أسرار مملكته ، وأنه الكل في الكل ، يا سبحان خالق الكون ، أما الأول فهو متعدد ومختلف ، أي أنه يمكنه أن يصبح كل شيء ، أو أنه يستحيل إلى اختلافي يقبل بالأخر ، وما دام الأمر هكذا ، فإن الصيغة تتطلب مزيدا من التأمل والمعرفة ، وبقدر ما هي الديموقراطية اختزالا للخير ، فإن الديكتاتورية هي رديف الشر في كل مكان . إن بوش ذلك الحاكم الأمريكي عندما قسم العاتم إلى قضية ونقيضها ، أي إلى خير وشر فإنه وظف البعد الديني لتحقيق مآربه ، وهكذا يلاحظ أيضا عند الآخر عندما ينطلق من مسلمته الخاصة ، إذن التعارض مقبول على أساس التكامل ، وفي الإختلاف رحمة للناس منذ قديم الزمان .

وعندما نتأمل الديموقراطية من هذا المنظور، يحز علينا أن ندعي بها ، فكفانا القضية الفلسطينية التي لم نستطع أن نقوم بالدفاع عنها ديموقراطيا ،فكيف لنا أن نغرس بذور هذه النبتة التي تبدو غريبة عنا ، يقول الشاعر الفلسطيني الكبير في قصيدته " ضباب على المرآة " :
نعرف الآن جميع الكلمات
والشعارات التي نحملها :
شمسنا أقوى من الليل
وكل الشهداء
ينبتون اليوم تفاحا ، وأعلاما ، وماء
ويجيئون ..
يجيئون ..
يجيئون ..
وآه ...
ملحوظة هامة :
هذه الرسالة هي للبعض فقط ، إنها كتبت بماء وأرجو كل من قرأها أن يمحوها بالنار، وبتعبير الشيخ أبي سعيد الصيرفي في الكتب التي تركها لإبنه :..........فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار ...

الثلاثاء، 10 يونيو 2008

بحال شعبان بحال رمضان

الحر بالغمزة...
بحال شعبان بحال رمضان
محمد صولة

يبدو أن الدارس لحال الوضعية السياسية بالمغرب مصاب بالغبن أكثر من اللازم خاصة أنه لا يمكنه أن
يتكلم كلاما حقيقيا وهذا ما جعل البعض يفضل أن يسكت حتى تستقيم الأمور وهكذ ا بتنا نلاحظ أن أغلب المتسايسين الذين يريدون أن يكسبوا من وراء السياسة يتلهفون فتات الزعماء الوهميين الذين لم يستطيعوا فعل أي شيء بل جعلوا المساحة التي أعطيت لهم أكبر من حجمهم الحقيقي فأين هي الشعارات التي تم رفعها في السابق أمام شباب كان يثوق إلى التغيير فما حصل إلا الوهم ثم الوهم
كانوا يترددون على المنصات للخطابة يحللون الواقع ويشرحونه كما يحلو لهم هاهم الآن قد صمتوا ولم يعودوا يقدرون حتى على ذبابة ما أروع تلك الأيام الخوالي التي كان فيها الإنسان يعيش على الكفاف والعفاف يحلم يصبو يرنو إلى تحقيق بعض أشيائه ما أروعها أيام عندما يخلد الناس إلى ذواتهم ويجدون أنهم هم كل شيء

الوطن في القلب وفي العين
الإنسان هو الجوهر وهو كل شيء
لكن الأذى يأتي من الحبيب والصديق
لنفكر جيدا أيها الأصدقاء والأحباء الغرباء
إنهم هنا وهناك
قالوا لنا لنتصالح مع
قالوا لنالنتسامح مع
قالوا لنا لنرغب في الدنيا وعنها
قالوا ولم يقولوا أي شيء بالمرة .
قالوا
قالوا

جماجم بحجم الوطن المستباح
يا سيدتي أما آن لك ان ترقصي رقصتك الأخيرة
قولي أرجوك عصاة سيدي سقوا لعظامي
أعرف أنك ستقبلين الوضع على ما هو عليه
أعرف أن الدهر غرار
أعرف أن الزمان صعب
أعرف أن اللي حفر شي حفرة كيطيح فيها
أعرف أن اللي فيه الفز تيقفز
أعرف أن الكلاب تنبح والقاطرة تسير
أعرف أن العين بصيرة واليد قصيرة
أعرف ما لا يعرفه الآخرون وهت الآخرون هم جهنم ؟
أعرف
أعرف

يد وحدة ما تصفق
حوتة وحدة كتخنز شواري
اللي عطاه الله عطاه واللي زلق جا على عين قفاه
واش هكدا بغات الأيام نمشيوا في الدنيا كاملين


ياسادة لقد تعمدت أن ألغي كل علامات الترقيم التي تعرفها اللغة العربية وأترك الكلام كل الكلام يسترسل على عواهنه فاقرؤوا أنتم ما تريدون واتركوا الباقي لي وحدي لأني لا أريد أن أقول شيئا وشيئا فشيئا هذا الكلام يصبح شيئا آخر


لاأريد إلا بعضا من كلمات ترقص كلما ناداها اللسان المفلول كالسيف

وحدها الحكيمة الشيخة تقول عندما يرقصها حبل الفقر والجوع خلي لعدو كيتو وحدو أو ليلتو وحدو عندي أنا بعدة بحال بحال
فلتنامي أيتها الفارهة الحسناء سعيدة في مكانك الجميل وليهنأ بال الجاحدين المتربصين بك لأنك قلت كلامك وانزويت لكن إسمحي لي أن أقول لك بحال شعبان بحال رمضان والسلام

الاثنين، 9 يونيو 2008

بلاغة الكتابة القصصية عند عبد الرحيم مؤدن

بلاغة الكتابة القصصية عند عبد الرحيم مؤدن
"وتلك قصة أخرى" نموذجا.
د. محمـد صولـة

إن الكتابة القصصية هي مغامرة في الزمن، وضده، بحيث تبدو لصيقة بتفاصيل الذوات التي يلفظها اليومي الحرون ويتشبث برسوخها فيه، لأنها تنفلت من أسار النمذجة المغرر بتشكلها ومضمونها، وتدافع عن مدى تحررها من هذا اللغم التحقيبي والتجنيسي والتأويلي الشخصي ، وإن كانت القصة القصيرة، كما تحددها أبجديات التأريخ والنقد الأدبيين، محفوفة بمخاطر التفاصيل السردية فهي بذلك تحاول ضبط مجموعة من الأسئلة التي تفترض المراهنة على قراءة المجتمع من خلال متخيل يهجس بالاختزال الشديد والتركيب، وبهذا تكون الكتابة القصصية تبحث بدورها في أقاصي المجهول عن بلاغة لغوية تجيب إلى حد ما عن حكائية الاجتثاث والتشظي، وصياغة النص القصصي عند القاص عبد الرحيم مؤدن تأتي من رؤية متكاملة تشمل تكونها تنظيرا وإبداعا ونقدا، وتحمل وعيا كائنا وممكنا لاحتمالية كتابة قصصية جديدة تربط بين انتقاد سديمية الواقع وأفق تحديثه المجازي.
العنــوان وقــــراءة داله:
بدءا تتبدى العناوين في أظمومة "وتلك قصة أخرى"1 لعبد الرحيم مؤدن القصصية موشومة بانزياح لافت، إذ تتخذ من تراكيبها منحى استباقيا يراهن على تنوير المتخيل الجمعي، لذلك فإن قراءتها تتمظهر شكليا في المستوى الأفقي، كأن نتحدث عن الحكي الطفولي الغريزي في البداية والممتد في الزمان والمكان إلى النهاية، أي في ختم المجموعة، هكذا نلاحظ أن هناك مؤشرات تختزل بنية الحكاية، تارة بفعل انتسابها إلى التخييل، أو إعادة إنتاج الدلالة فيه، وتارة أخرى بارتكازها على الذاكرة أو ترتيب تشييد المعنى الذي يفتقده الواقع المفكر من خلاله، والمستعصي على الفهم، لأن حضور الكشف والمكاشفة كسمتين يجعلهما يرتبطان بتفكيك صورة محتملة للمعيش، ويدفعهما إلى تبديد هذه العلاقة وربطها بالغرابة الكامنة في خطاب يتبنى الانتقاد والسخرية.
إن هذه العناوين إذن، بقدر ما تتحرك أفقيا- كما أسلفنا – على المستوى التخييلي، فإنها تستدرج الخطاب الحلمي المفتوح على زخم طفولي مستبد باللغة والصور وعناصر التداول، يلاحظ هذا في" أوراق طفل عاش مائة عام" و " جدتي هنية" و " الماتش" و " الوقت من ذهب" كعناوين فرعية، هي في الأصل عناوين لنصوص مستقلة بذاتها، في حين أن " قوس قزح" " ومكان مظلم وجيد الإضاءة" و " العصفور" و "تلك قصة أخرى..." تشكل من خلال معمارية نصيتها2 وعبريتها3 لها تحويلا دلاليا يسهم في تكثيف معاني التسمية والتعيين4، لذلك فإن هذه العناوين، على الرغم من تصنيفها لها إلى صنفين، هي عتبات seuils تختزل أفق انتظار المتلقي، وتدفعه إلى تحيين خطاب النص في علاقته بخطاب المحكي، وإذا كانت هناك معينات إغرائية تنقل مسوغات القراء إلى احتمال كونهم مشاهدين5، فإنها تعيد ملفوظها إلى مناصصيته sa paratexte باعتباره نصا موازيا يمكنه أن يسترشد به العنوان المركز، وهنا تصبح الكتابة القصصية كتابة فسيفسائية6، تسرد التفاصيل وترهنها بالنسقي الفني والجمالي، بدءا من العنوان إلى النص، ومن المركزي( قوس قزح)إلى الموازي (الرجل والكمان أو الكمان والرجل)، وهكذا فلذة النص ومتعة قراءته تنطلق من نهايته، لأن العنوان الأصل، هو آخر نص في المجموعة، وهو مبتدأ الحكي، يظهر فيه صوت الكاتب أكثر ما يبرز فيه حضور السارد، " أقترح عليكم أن نكتب قصة مشتركة ما رأيكم؟ مجرد اقتراح، لنبدأ"7.
بناء النص- تيمة الكتابة:
إن الكتابة القصصية ذات طبيعة تنويرية للغة ولتناميها الزمني، بحيث إن بناءها من هذا المنظور يقتضي الاهتمام بالوعي السردي القصصي المحفوف دائما بالمغامرة والتجريب، وإذا كانت هذه الخصيصة تضبط النص القصصي وتجعله أكثر ملاءمة لنسقية جنسه، فإنها تبدو من وجهة نظر أخرى ذات حساسية بليغة، وذلك من خلال التقاطها للتفاصيل واقتصادها اللغوي وكثافة مدلولاتها، وربطها الإيجابي بين السردي والوصفي، وعلى الرغم من هذا، فإنها تبقى ملتزمة بصوغها البنائي المتمرد على البنيات المطلقة والرؤى الكلاسية، لذلك ثمة انفتاح على الخطاب القصصي وعناصر تشكله، ورونقه بلغة ذات إيقاع شاعري، "لكن الكتابة القصصية القصيرة ليست لها الصلابة الكافية لمحاكاة السيرورة الخارجية في شموليتها، فاستسلمت لهشاشتها الجميلة، إنها ذات بعد استعاري محض، أقصد أن لغتها المفضلة هي الإيماء والإيجاز والوصول إلى الهدف بأيسر الطرق، ونبذ كل ارتباط بالبداية أو النهاية التقليديتين، فهو أقرب إلى الشعر لغة"8، فهل كتابة القصة القصيرة تتحكم في بنائها وتيمتها، أم هما معا ينضبطان وفق خطة القصاص الواعي باشتغاله السردي داخل جنس معين؟.
تظهر نصوص "وتلك قصة أخرى" ثلاثة أنماط للكتابة القصصية، هي: نمط البناء الحكائي المقطعي، ونمط البناء الحكائي التناوبي، ونمط البناء الحكائي المسترسل، وإذا كان لكل بناء من هذه الأنواع نمط معين ، فإن معمارية النص وهيكلته تخلقان هويته، أي أنهما تجعلانه مرتبطا بخصوصيته، فالكتابة القصصية عند عبد الرحيم مؤدن لا تركن إلى رؤية واحدة، بل تتعداها إلى تحبيك المتن القصصي عامة، وهو ما يحفز على التعددية الأسلوبية، والاختلاف الرؤيوي، والمغايرة الخطابية، لذلك نلاحظ أن بناء النص يترك هوامش للتأويل ويعتقها لغة، على الرغم من أن كل هذه الطرائق المشتغل عليها تدفع التيمة إلى أن تكون أكثر انفتاحا على التلقي والقراءة.
البناء الحكائي المقطعي:
تشتمل المجموعة على نصين بناؤهما جاء على شاكلة مقاطع، مرة بواسطة أرقام من (1) إلى(7)، ومرة بوضع عناوين فرعية تتناسل منها تقاطعات الحكاية، وتفجر متخيلها بطريقة القلب، مثلا "الرجل والكمان" و " الكمان والرجل"، وشكل هذين النصين بنائيا يرتبط بهدم الواقع المعيش دلاليا وإعادة تشيده، إذ أن التقطع الذي يظهر في المبنى ويستمد منه نسغه"... يدل على شعور قوي لدى الكاتب بعدم الانسجام، انسجام الواقع المعيش، وبعدم تراتبيته"9، لهذا كان من الضروري أن تأتي القصة في شكل لوحة أو غيرها مرهونة بدال ضابط لانتساج النص.

البناء الحكائي التناوبي:
تخضع القصة في هذا النمط إلى سيرورة حكائية هي عبارة عن أبنية متسلسلة، تبرز بوضوح في النصوص التراثية التي اهتمت بالسرد، فالحكاء مثلا في ألف ليلة وليلة، لا ينتهي خط امتداده السردي عند نقطة معينة إلا ويبدأ من جديد من خلال عرض حكاية أخرى، وهذا النمط10 يرتبط بمعالجة تيمات وقضايا، بحيث يشتغل داخليا أكثر، على الرغم من أنه يظهر انسجاما مع الشكل الخارجي.
البناء الحكائي المسترسل:
يبدو أن القصة المغربية بقيت مخلصة لهذا البناء، خاصة أنه كان أكثر واقعية بالنسبة للطروحات الاجتماعية والنفسية والتاريخية على السواء، لذا فسلطة الحكي فيه لا تكاد تخرج عن خارجيات المتن القصصي ومحفزاته التي هي أصلا من مكوناته وإمكانات متخيله، إذ نلاحظ أن هناك سيرورة في المتن الحكائي على مستوى اللغة السردية التي تتداعى فيها المعاني ويتناسل الأسلوب الحامل لدلالة غائية، "ويذهب الطموح بعيدا بكاتب القصة فيسعى إلى مزجها بعناصر يستقيها من الفنون الأخرى، هناك من يذهب طموحه إلى الموسيقى وهناك من يذهب طموحه إلى التشكيل والسينما و...و...و... والقصة بين هؤلاء وأولئك11، تتابع خطوها إذ يجد كل قارئ مبتغاه"، هكذا نقف على هذا الصوغ من خلال الاستناد على أربع قصص في المجموعة هي" الماتش" و " الوقت من ذهب" و "مكان مظلم وجيد الإضاءة" و "العصفور".
إن هذا البناء المتعدد في المجموعة يجعلها تهتم أيضا بالمقاربة الموضوعاتية التأويلية، وتحضر تيمات متنامية تؤطر القصةHistoir، وتمنحها اشتغالا على مستوى اللغة والخطاب، بحيث إن الصياغة القصصية بنائيا يمكنها أن تضاعف من تنامي النسق الزمني في الحكاية، وتدفعه تارة إلى الامتداد، وتارة أخرى إلى التقليص، وهذا ما يبعد استثمار الهوامش والمستنسخات والنصوص الموازية والتدليل على سياقات الحوافز الخارجية، لذلك تبدو استراتيجية الاشتغال على الشكل عند القاص عبد الرحيم مؤدن تجريبية، تستلهم الوعي بالكتابة القصصية في شموليتها، وفي أبعادها الفنية و الجمالية.
تنبني تيمة الكتابة في مجملها على طرائق عرض الأفكار والموضوعات، وتتجلى في المجموعة بصفة خاصة مرتبطة بشخصية الطفل، كصورة مقنعة لعالم متحول، تحاول احتواء تشكل الواقع، تبديده وإعادة اكتشافه من جديد، لكنها تجد نفسها مرغمة على تمثله في حدود إمكاناتها، وهو ما يشار إليه في نص " وتلك قصة أخرى"حين تستعصي على "علي"، وهو شخصية وهمية أصلا، كل الأشياء، فلا يحقق بذلك رغبته في تشييد الحكاية أو فهم متخيلها، لذلك يقول السارد:"يبدو أنك لم تستفد من الملاحظات السابقة، شخصية "علي" يجب أن تكون "حقيقية"، "علي" في الواقع لا وجود له والمقصود في القصة هو التعبير عن حالة واقعية لا يشكل فيها الاسم إلا يافطة إعلامية...وهل سمعت طوال حياتك عن مصروف المواصلات الذي يعادل نصف خبزة وكأس شاي حتى في جهنم !؟ " خرج علي..." ولكن تلك قصة أخرى..."13.
إن محتوى التيمات في المجموعة يتمثل إشكال الطفولة كقضية أساسية، يمكن قراءة أسئلتها من منظور واقعي، وكمسألة طفلية تحاول فهم كل ما يتعلق بذاتها ومحيطها وهوامشه من خلال طروحات اجتماعية ونفسية، بحيث إن مسار جل القضايا المطروحة في المجموعة يصب في تيمة واحدة، سواء بصيغة معلنة أو مضمرة، فنص" الوقت من ذهب"14، يعلن انتماءه إلى عالم الطفولة بواسطة إهداء صريح على الشكل التالي: "مهداة إلى الأطفال الصغار والكبار"15، أما باقي النصوص فتأتي قضاياها حسب الترتيب التالي:
1/ أوراق طفل عاش مائة عام/ العيد
2/ جدتي هينة/ الحكي
3/ الماتش/ كرة القدم
4/ الوقت من ذهب/ الوقت
5/ قوس قزح/ الموسيقى
6/ مكان مظلم وجيد الإضاءة/ السنين
7/ العصفور/ الوجود والعدم
8/ وتلك قصة أخرى/ التخييل.
هذه المواضيع التي قاربها القاص عبد الرحيم مؤدن في المجموعة، صيغت بطريقة ذهنية ونفسية، لأنها تحدد أفق انتظار المتلقي إلى حد ما، ولو أن المسافة الجمالية بين الباث والمتلقي تتخذ طابعا أسلوبيا يتسم بملمح الواقعية، لذلك فتيمة الكتابة بقدر ما يتم فيها التركيز على المسألة الطفلية وتداعياتها، بقدر ما تحقق شذوذات Altérations على مستوى خرقها لأنساق اللغة والخطاب.
محكي الأفكار واللغة والخطاب:
تكاد تكون الفكرة التي يشتغل عليها السرد القصصي هي الحدث المحكي، إلا أن الفاصل بينهما يبقى بين خطاب السارد و خطاب الشخصية، باعتبارهما محفلين يجمعان بين المسرود من الأفكار (الأحداث) والوسيط السردي الذي هو آلة سردية بين المحكي والمسرود له، و "الأمر يتعلق هنا بمحكي للأحداث، حيث يحكي ما قامت به الشخصية أو ما وقع لها، ويمكن للسارد أن يتناول كلام الشخصيات كموضوع لسرده، وقد يختار أن يعيد إنتاجه حرفيا، كما تم التلفظ به "واقعيا"، حينئذ ينمحي السارد أمام الشخصية، ويصبح السرد شفافا"16 لذلك نجد في بداية المجموعة، وخاصة في المقطع الأول من نص "أوراق طفل عاش مائة عام" تقاطعا بين السارد والشخصية،" اليوم عيد ،انتظرت بفارغ الصبر بسمة الباب، وكأنها بسمة صبح بعد ليل طويل، ونحن الأطفال لا نعرف إلا بسمة الأبواب، أباؤنا قليلا ما يبتسمون، وفي حالة ابتسامهم تبدو هاماتهم كأبواب الأعياد التي تظل مشرعة طوال اليوم، ثم تنكفئ على نفسها في المساء"17 إذ يتضح في هذا المقتطع، كيف أن السارد يسرد،و يصف، ويجمع بين مختلف عناصر الحكي والأشياء التي تكمل رؤيته داخل وخارج المحكي.
إن الأفكار التي تأتي بواسطة لغة سردية جد مختزلة وواقعية، تجعل من حركتها تعبيرا أكثر دقة على استثمار التفاصيل والقبض على الهوامش، بحيث يتم الحضور الحواري بين السارد والآخر كمفكر من خلاله، لأن "...الخطاب الذي يكونه البطل حول نفسه يتكون من الخطابات التي يكونها الآخرون حوله، إنه يتكلم ويفكر من خلال الآخر"18 وهذا يتمظهر عندما يتقاطع صوت السارد مع صوت الشخصية، فيكون بذلك إطارا يجمع بين الحوار الداخلي والخارجي،"- يخاطب الطفل نفسه بصوت خافت، ويومئ برأسه عدة مرات، وكأنه يوافق شخصا وهميا همس له بهذا الكلام:" السجن السجن ولو كان من زجاج!" 19 ، وعلى الرغم من ذلك فإن هذا التداخل يساهم في خلق لغة وخطاب الشخصية الملتبسة، بل من خلال بعض المؤشرات الذاتية التي أتبتت على أساس التذكر والتخيل والتوصيف، وقد بات من الضروري أن يستفيد السرد القصصي من التبئير اللغوي كأسلوب منفتح على الحكاية في كمونها أو تحققها، و سواء أكانت عناصر الحكي منجزا داخليا أو خارجيا، فإنها لا تحتفظ بدالها إلا باعتبارها لغة يتعدد فيها الخطاب بين الذاتي والموضوعي في سياق إدراك ما.
إضافة إلى هذا، فإنه في بعض القصص يتم الاهتمام بالتبئير الخارجي الذي يعتمد الاستهلال الملتبس، و فيه يصبح البطل غامضا، ثم يعلن عنه في الأخير، مثلا في نص "الماتش" نقرأ ما يلي:" في البداية لم يصدق ذلك، أخفى الخبر عن الكل، وانتظر اليوم الموعود، صفوف متراصة، ورجال القوات المساعدة يلوحون بهراواتهم القصيرة، همس رجل من الصفوف بتسليم:
- هؤلاء لا يعرفون إلا الضرب !
- أجاب الثاني بتسليم أيضا:" انتظمت في الصف مصيبة، وإذا لم تنتظم فالمصيبة أكبر"20 .
إن اللغة التي يستثمرها السارد في جل نصوص المجموعة، هي لغة مشدودة إلى الواقع، مادام أن هناك علاقة بين الواقع والمثال، بين الذات والموضوع، إنها استحضار في بعض الأحيان للاشعوري يحاول أن يفهم منطق الواقع كمعطى في نفس اللحظة، وإذا كان هناك فعل بين الخارج والداخل للشيء، فإن ما يربط بينهما يجعل الخطاب يعيد إنتاج رغبته التواصلية أثناء عبريته للواقع، يؤكد هذا سيجموند فرويد في تأطيره لإشكال الواقع بين الذات والموضوع، "واللحظة الحاسمة هي اللحظة التي فهم فيها، فيما بعد، بأن نواة الحقيقة تتعلق بالرغبة (الأوديبية في آخر المطاف) التي تستثمر في هذا الواقع " وتمنحه واقعيته"، ويمكن القول هنا بأن الرغبة تعامل نفسها على أنها هي الواقع ! "21 يتجلى هذا في نوعية الربط بين المحسوس والمتخيل، كأن يتم تحويل الواقع إلى عصر مضاد ومستفز " سأل الجيلالي الديك مرة أخرى، الذي كان يداعب في هذه اللحظة "أرقامه" الذهبية:
- ومن يوقظ الناس من نومهم؟
- الدنيا مملوءة بالديكة، لست أنا على كل حال، لسنا نحن على كل حال!.
تعجب" الجيلالي" من فعل الجواب الغريب، فأسرع بالقول:" الوقت من ذهب"22، إذ أن هذا التحول يمكن أن يخدم من منطلقه اللغوي خطا بين أساسيين، أولهما مبأر و ثانيهما مبئر، لذلك فمحكي الأفكار عندما يربط بالصيغ les modalités تصبح حقول رؤيته متباينة، أي قد يمارس عليها التضييق أو التوسيع، وبالتالي، فإن مجال الربط بين العنصرين يتخذ شكلا متعددا، بحيث إن الناس يشاهدون في المرحلة الأولى ما يراه هو في المرحلة الثانية، وإذا كان موضوع الديكة هو المقصود، فإن مستويات إدراكه هي المنجزة له، وهذا حسب منظور ميك بال Mike bal يخلق تمايزا بين فاعل الإدراك (المبئر) وموضوع الإدراك(المبأر)23، ويجعل اللغة التي تنقل بواسطتها محكيات الأفكار، وما يؤطر انسجام الخطاب في النهاية، عنصرا منظورا إليه من خلال الاهتمام بخطاب المحكي، وضمنه باقي الإوالويات التي تفيد سردية الحكاية .
الزمن والمكان:
يحاول القاص عبد الرحيم مؤدن أن يكون إيقاع مجموعته متداخلا، بحيث إن زمنية السرد لا تخلو من اختلالات تسعى إلى توفير فسحة لتفجير المحكي، ويمكن أن نلاحظ هذا في مستويات متعددة، من بينها: "كان يتابع الدقائق الأخيرة من المباراة، وتعيش المدينة أسبوعا كاملا من الفرح الجنوني في انتظار المباراة المقبلة"24، فالجملة الأولى ترتبط بالمدى والثانية بالاتساع، لأن الصيغة الأولى تفصل بين توقف الحكي وبداية ارتجاجات الزمن، ولعل هذا ما يؤدي إلى التذكر الذي يظهر في البداية، وذلك حين يقول السارد" في البداية لم يصدق ذلك، أخفى الخبر عن الكل، وانتظر اليوم الموعود، إذن، أي شيء لم يصدقه؟، وما هو الخبر الذي أخفاه؟، إنها أشياء مرتبطة بالاسترجاع المتوائم مع المسرود التضميني25، كما يلاحظ أيضا، أن العناوين في مجموعها كلها تشمل استراتيجية دلالية محددة، هي تأكيد على ما سيقع من أحداث، فالزمن الذي تشتغل عليه العناوين المركزية والفرعية، وكل ما هو مواز لها من مقدمات ومداخل..الخ، يخدم هذا الاتجاه، باعتباره استباقيا Prolepse، ولنلاحظ العناوين التالية الواردة في المجموعة: أوراق طفل عاش مائة عام، جدتي هنية، الماتش، الوقت من ذهب، قوس قزح، مكان مظلم وجيد الاضاءة، العصفور، وتلك قصة أخرى، إنها مؤشرات دالة على كشف المحكي، واختزال له في لحظة السرد التي هي تدبير بين الوقت والزمن، ففي "نص"جدتي هينة" نجد البداية تنفتح على الزمن الحكائي، ثم تتحول إلى ضبطه في الوقت المحدد، يقول السارد: كيف حال "هينة" مع الغول؟ تبتسم جدتي، وتأخذ في مسد ساقيها الممدودتين للاستسلام..وتحكي.."كل عام تنتظر "هينة" موسم جز الصوف، عادة يكون الموسم في فصل الربيع"27 ، هذا الفعل الذي يورده القاص في البداية " تحكي" هو مؤشر على الدخول في زمن متخيل، لكن لقطة "عام"، إضافة إلى"موسم" المتكررة مرتين، الأولى مرتبطة بلحظة جز الصوف، والثانية تحدد لها وقتا أولا ثم زمنا، أي أن فصل الربيع يمكنه أن يكون زمنا متداخلا بين الوقت وزمنية الحكاية، وتتمظهر هذه العلاقة في الامتداد الإيقاعي كخاصية من خاصيات الكتابة القصصية في المجموعة، وهي هنا بنيات منتظمة في إطار من الصور المتنوعة، يجمعها شكل حدسي، أو توتر في امتداد المكان، وفي سياق إيقاع زمني منصهر،" لأن هذا يبين بكل جلاء أن التوتر هو الذي يعطي الزمان، وأن الزمان- مرة أخرى- ليس إلا نتيجة"28 لذلك كان حلم السارد- الطفل بمائة عام- كلها أعياد أو حكاية قوية من حكايات الجدات الساحرات، أو استرجاعا للحظات اللعب البدائية كاستعادة لعبة كرة القدم في الحي، وحوار العصفور وهو في القفص، وتأمل الموسيقى والسينما وسلطة التمرن على الحكي، فالمستوى الإيقاعي الدال دائري" نظر الطفل "الجيلالي" إلى الساعة الدائرية"29،و "كان الأطفال في هذه اللحظة يرقصون رقصة الهنود الحمر الدائرية"30، وبهذا تكون المجموعة قد كثفت من الدلالة الزمنية على حساب ما هو واقعي في المكان المعيشي المتخيل، لأن هوية الانتماء المعلن عنها في القصص ككل، هي ممثلة من خلال معجم طبيعي محدد، يمكن أن نشير إليه باستعمال جرد إحصائي لألفاظ تعود إلى حقل ذاتي لا يبارحه السارد- الطفل أو غيره في المجموعة، وهو على الشكل التالي: الشهدية (المشمش والخوخ) علبة "دانون"، الغشاء الزنكي،"الفوريان"، عيطة" كوبا"، "دي ستيفانو"، " سانتا ماريا"، "أديداس"، الترانزستور، كوكاكولا،..الخ، وهذه الكلمات لوحدها يمكنها أن تؤطر متخيلا معينا، يساهم في جعل رؤية السارد للمكان مرتهنة بعودته إلى الذاكرة، أي أن دلالاتها استرجاعية أحيانا، وحلمية أحيانا أخرى، لذلك فالكون الذي يعيشه السارد مكانيا هو منته في الصغر وممتد في الكبر، وعلى الرغم من ذلك فالكون الذي يعيشه فيهما يحس بترابطهما31، إذ ليس المكان هو الحيز الجغرافي والمؤثث لإطار له خصوصية الحجم والشكل والكتلة، بل هو كل الأشياء التي يمكنها أن تتمثل في المحكي من خلال عملية التحويل32 التي تتم وفق شروط البحث عن حقيقة الذات مقابل نفسها.
إن المكان الجغرافي المستحضر في المجموعة محدد في البيت، الكوخ، الملعب، السجن، السينما، الحمام، المقاطعة، أو بصفة مدققة زنقة الإمام علي وزنقة معاوية بن أبي سفيان، وترجع هوية هذه الأمكنة إلى تعالقاتها مع مختلف عناصر المتن الحكائي، وهي بالضرورة تختزل- إذا أردنا ربما التأكيد أكثر- حيزا أتوبيوغرافيا للكاتب يجعل منه منطقا تخييليا، لأن القصص تجري أحداثها في فضاء أوسع، هو فضاء القنيطرة، في حين أن المكان المتخيل له علاقة بعالم الطفولة، وهو منسي أساسا على متناقضات وأضغاث أحلام، ويمكن أن نلحظ هذا في عينة هي على الشكل التالي: "فانتفض صارخا في الأطفال الذين فروا نحو علب كارتونية فارغة صنعوا منها بيوتا بمرائب سيارات، وبيوتا بحدائق، وبيوتا بمسابح، وبيوتا بمدافئ.."33 وإذا كان المكان على العموم مصرحا به أو مضمرا، فإنه قد يأتي محيلا عليه بإشارات أو علامات أو رموز، لذلك فالجسد السارد يتحول إلى مكان بدوره ويؤدي وظيفته المجازية و الاستعارية، يقول السارد – الطفل " عن الأطفال لا نعرف إلا بسمة الأبواب، آباؤنا قليلا ما يبتسمون، وفي حالة ابتسامهم تبدو هاماتهم كأبواب الأعياد التي تظل مشرعة طوال اليوم، ثم تنكفئ على نفسها في المساء"34، وهذه الأدوار التي يلعبها المكان في المجموعة، هي أدوار متعددة تجعله يؤدي وظيفة بلاغية، تمنحه رغبة في الاكتشاف والمغامرة، فالسارد- الطفل كلما أطل على عالم الكبار، إلا وأحس بنوع من التوتر والانغلاق " وفي يوم العيد ذهبت عند خالتي وجدتي وعمتي، فلم أجد إلا الأبواب المغلقة"35 لكنه عندما يعود إلى ذاته يحس بانسجام وانفتاح على الآخر، خاصة وهو يستعيد لحظة فارقة من حياته الحالمة"، وفي أيام الأعياد تتحول خيوط "هينة" إلى خيمة عرضها السماوات والأرض، أما في أيام الصيف فيستظل بها الناس من لفح الهجير، وفي أيام البرد يحتمي بها الذين انقطع بهم حبل زمانهم، وفي أيام الربيع تختلط ألوانها على الطير مع شجيرات "الدفلى" و"عباد الشمس"36، وتتمثل هذه النظرة المكثفة لعالم الطفولة فضاء شموليا وممتدا أيضا في الزمن، أي من تأطيره في الخيمة إلى تداعيات الانتشار في السماوات والأرض وانغماسه الإيجابي في الفصول الأربعة، ولذلك يظهر استثمار المكان متناغما مع الزمن وإيقاعيته، بحيث هناك شعرية حلمية في توضيب عناصر الطبيعة والإنسان والجماد والمؤسسات، وهو ما يخلق للنص صورته ونغمته، إذ من خلالهما تتأكد علاقة الشكل القصصي بالواقع، أي بين المكتسبات الحكائية ومتغيرات المجتمع الحديث37، هكذا يبدو الربط بين العنصرين مؤسسا على وعي متكامل بالعملية الإبداعية ومرجعيتها الواقعية.
أسلبة الواقعية الانتقائية:
لعل اهتمام القاص بالنزعة الواقعية هو ما دفعه إلى توظيف كل أشكال اليومي والراهن والهامش، إذ ليس بالضرورة أن يتم نقل الواقع بكل تفاصيله إلى الإبداع، لأن مدونة الذاكرة لا يمكنها أن تستعيد كال هذه الجزئيات، وبالتالي فهي ترجح التعامل بصورة انتقائية مع ما يصلح للترميم والأسلبة.
إن نصوص المجموعة، تكاد تشتغل على عينات خطابية متعددة الأساليب، وهي عملية تجريبية في أشكال الكتابة الرحلية والمسرحية والمقالية والشفهية، وبالتالي فهناك حضور لأسلبة الخطاب، حيث يتساوق اليومي والأخلاقي والسياسي والاجتماعي إلى درجة أن الصيغة تتخذ طرائق سردية وحوارية تارة، و وصفية تارة أخرى، ذلك أن دقة الانتقاء في المعجم أبرزت صدق العلاقة مع حركية المجتمع، خاصة أنها لم تعالجها من زاوية واحدة، بل صرحت بذلك بأسلوب سخروي ينتقد المعيش وثباته ويدفعه إلى تأهيل أدواته ورؤيته، ويمكن الإشارة إلى الصيغة التالية التي وردت في نهاية المجموعة "خرج علي" وتلك قصة أخرى38، وبهذا فالمجموعة استعانت بكافة الوسائل لتبليغ خطابها، ورسالتها التي هي إنسانية بالدرجة الأولى، وموجهة إلى فئة مستهدفة تتمثل إجمالا في الأطفال والفتيان.

خاتمـــــــة:
نخلص إذن إلى أن المجموعة قد استطاعت أن تكثف من استعمالات اللغة اليومية في تنوع أساليبها وتعدد خطاباتها، وبذلك جاءت حاملة لفكرة تهتم بالواقع في اجتماعيته، بل وتعيد تشييده من خلال مساءلته وتحليله، لذلك فالنصوص، وعلى الرغم من اختلافيتها، تصب في تيمة واحدة، تتمثل في الحقل الطفلي لا سيما أنها تحرص على مواكبة أهم تحولاته الذاتية والموضوعية، وبالتالي تحتفي القصص بذاكرة جمعية، تراهن على استقراء العابر واليومي و تجلياتهما، واستنباط فرادتهما، لأن التعامل النصي مع الذات الساردة في احتمال نوعيتها القصصية، هو وعي ينتصر و يتمثل صدق الموضوع وقوته.








هـوامــــــش
1/ عبد الرحيم مؤدن. وتلك قصة أخرى...عيون المقالات.الدار البيضاء. الطبعة1. 1990.
2-3/ قصدنا من وراء هذا التلميح إلى مصطلحين لجيرار جنيت هما معمارية النصArchitextualité، والعبر-نصيةPara- Textualité، وقد ورد في كتابه Palimpsestes
P.7-8..Seuil 1982 .La litterature au second degré
4/ Ch.Grivel.production de l'interêt romanesque.Moton.1973.P.169-170.
5/ Gerard Genette.seuils.ed seuil. Paris.Page 71.
6/ إدريس الصغير.لماذا القصة القصيرة؟. أفاق. ملف القصة القصيرة في المغرب العدد:60. ص:160.
7/ عبد الرحيم مؤدن. وتلك قصة أخرى...مرجع سابق. ص:41 .
8/ محمد معتصم. التيمات الرئيسية والأبعاد الدلالية في القصة القصيرة بالمغرب. آفاق المغرب. العدد 60. ص:19.
9/ نفسه: ص.20
10/ نحيل هنا على نص لعبد الرحيم مؤدن في مجموعته، هما:"جدتي هينة" و "تلك قصة أخرى"
11/ يقصد القصاص محمد صوف في شهادته بهؤلاء وأوائل القصاصين الذين يكتبون إما قصة واضحة أو أخرى ممزوجة بفنون...آفاق. مرجع سابق.
12/ محمد صوف. ومع ذلك فهي تدور. نفس المرجع.صفحة 170.
13/ عبد الرحيم مؤدن. وتلك قصة أخرى...مرجع سابق.صفحة 44.
14-15/ نفسه ص:25.
16/ جيرار جينيت-وايت بوت- بوريس أوسبيسكي- فرانسوازف روسوم غيوم-كريستيان أغلي- جان إيرمان.نظرية السرد من وجهة النظر إلى التبئير، الحوار، ترجمة ناجي مصطفى.ط1. 89. ص:106.
17/ عبد الرحيم مؤدن. وتلك قصة أخرى...مرجع سابق. ص:5.
18/ جيرار جينيت... نظرية السرد. مرجع سابق.ص:111.
19/ عبد الرحيم مؤدن. وتلك قصة أخرى...مرجع سابق. ص:25.
20/ نفسه.ص:17.
21/ بول لوران أسون.التحليل النفسي.أسسه الفلسفية ومكتشفاته الكبرى.ترجمة وتقديم محمد سبيلا.دار العرفان للنشر الحديث ومنشورات مجلة الدراسات النفسية والتربوية 1985-صفحة 103.
22/ عبد الرحيم مؤدن. وتلك قصة أخرى...مرجع سابق. ص:27.
23 / نظرية السرد.مرجع سابق. ص:120.
24-25/ عبد الرحيم مؤدن. وتلك قصة أخرى...مرجع سابق. ص:17.
26/ نظرية السرد. مرجع سابق.124.
27/ عبد الرحيم مؤدن. وتلك قصة أخرى...مرجع سابق. ص:9.
28/ غاستون باشلار.جدلية الزمن.ترجمة خليل أحمد خليل.المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.الطبعة الثالثة.1992.ص:142.
29 /عبد الرحيم مؤدن. وتلك قصة أخرى...مرجع سابق. ص:25.
30/ نفسه. ص:39.
31/ غاستون باشلار. جماليات المكان. ترجمة غالب هلسا. المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.ص160. الطبعة السادسة 2006.
32/ بول لوران أسون.التحليل النفسي.مرجع سابق.ص:62.
33/ عبد الرحيم مؤدن. وتلك قصة أخرى...مرجع سابق. ص:39.
34/ نفسه.ص:5.
35/ نفسه.ص:8.
36/ نفسه.ص:10
37/ عبد الرحيم مؤدن. الشكل القصصي في القصة المغربية.ج2.منشورات عكاظ. ط1 1997.صفحة 432.
38/ عبد الرحيم مؤدن. وتلك قصة أخرى...مرجع سابق. ص:44.