رمزية المحفل الطقوسي عند اعبيدات الرما
د . محمد صولة
تقديم
لقد استطاعت الثقافة الرسمية بسلطتها الإخصائية للرمز المتداول شعبيا، أن تقصي شساعة أحد مكوناتها المستعارة تراثيا وعادات وتقاليدا، لذلك كان من الضروري أن يتم الإعلان عن منطق القبول داخل المؤسسة المحكومة بالاعتراف وإزالة الشبهة والرضى، وهو ما جعل الدراسات الفكرية السابقة للثقافة العربية أن تحصر أبحاثها في المقبول عند الخاصة، وفي ترشيد وعي العامة للحفاظ على النموذج المعترف به، فكانت طقوس عديدة تتعرض إلى المحور والإرجاء، وتلاقي من العنف ما لا يمكن الحديث عنه أخلاقيا، وهكذا تم تغييب مجموعة من الطقوس والاحتفالات بشكل تام وقسري دون التفكير في إعادة الاعتبار لهذه الظواهر، وحتى إذا ما ظهر اهتمام بذلك، فهو يكون من باب المحاياة ، والفكرة ليس إلا، بحيث لم يتم استيعاب ثقافة المراحل السابقة على أساس أنها تمثل أصوات الأمة، وتخدم وظائف متعددة اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية، وبالتالي كان مآل هذه الأشكال البدائية/ الظواهر الطقوسية والاحتفالية التعرض إلى الاندثار والتشويه.
إن ما أريد مقاربته هنا، يتمثل تحديدا في ظاهرة اعبيدات الرما، كشكل من أشكال الاحتفال الفرجوي العادي والغريزي، وكطقس يشمل الكثير من العلامات والرموز الدالة على ثقافة مرحلة ما من مراحل الثقافة العربية عامة والمغربية خاصة، فما يثير في الظاهرة هو ارتباطها بالترحال والأرض كمكان يمكن تجسيده في خلوات داخل الأحياء، وترديد أغان متنوعة تهتم موضوعاتها بالإنسان والحيوان وبعض التحولات التي تعرفها المجتمعات وتوثقها عفويا، وظاهرة اعبيدات الرما لم يتم دراستها كما حصل مع الحلقة وسلطان الطلبة والبساط وأبي الجلود في المغرب، وإنما اقتصرت الإشارة إليها عند بعض الإثنوغرافيين فقط الذين حاولوا فهمها من خلال اعتبارها طقسا استعاريا يقوم على الحكمة والتوجيه تارة، والتنكيت أو الفكاهة السخروية تارة أخرى، مقابل ما قام به الذين اهتموا بالتاريخ والأخبار والسير والملاحم، فهم انحصروا في إهماله وعدم دراسته، باستثناء ما قدمه المستشرف لا ووست في كتابه "قصص المغرب البربرية"، وأشار إلى هذا الأستاذ حسن بحراوي في إحدى مقالاته التي تهتم بإثنوغرافيا المسرح المغربي[1]، وإذا كان المحفل الطقوسي لعبيدات الرما لا يقف عند حدود زمانية معينة ، فإنه يحتفي بالمكان، ويشيد منه فردوسه الطوطمي الذي يقيم فيه شعائره، ويقدم من خلاله قرابينه ويحصل على منح التبريك، لذلك نرى أنه أكثر ارتباطا بفضائه الطبيعي وحاميا له، ومعبرا عنه بعفوية على درجة يصير حدثا مؤسطرا، وموازيا للوقائع الكبرى التي يشهدها المجتمع،بطريقة يصعب تأويل تشكلها وفهم علاقتها المتداخلة، ولربما يكتب هؤلاء- أي اعبيدات الرما- نصوصهم انطلاقا من هاجس الخوف من المجهول، وهو المتمثل أساسا في مواجهتهم لثبات الطبيعة وصمت الإنسان فيها، ولعلاقتهم المركبة جدا مع الوجود.
سلطة الطبيعة واستعارة المكان عند اعبيدات الرما.
لاشك أن علاقة "الرامي" مع هذا المكون كانت عميقة جدا، ولم لا نربطها باتحاد صوفي ؟ بحيث لا تحضر إلا في ترحاله الدائم، لذلك فالمكان الطبيعي بالنسبة إليه، رمز من رموز هذا النزوع الاغترابي الذي يحسه، إذ أن ارتباطه به اتصال وانفصال في نفس الوقت، وهو انفصال عن المكان الواقعي واتصال بمكان رمزي، يختزل الطبيعة في أهم مكوناتها، وهو المتمثل في التراب كأصل، فلا يمكن أن تمتد احتفالات "اعبيدات الرما" إلى النقيض لهذا، بل تبقى حريصة على هذا الأصل البدئي، وإذا كانت الروح الأبدية قد انفصلت عن أصلها وتحن إلى بدايتها، فإن "الرامي" هو كذلك يتشوق إلى أصله الطبيعي، ويريد أن يسكنه رمزيا، لأنه هو الأخير الذي سيحتضن جسده، هذا العنصر الطبيعي الذي أدى إلى موت الأرض، وهكذا استقر الفعل عند الإنسان في محاولة التحكم والتنظيم، لكن ولادة الإنسان كانت تتمرس على صوتها الأبدي[2]، ومن هنا ارتقت هذه العلاقة إلى مستوى آخر، تجلى في فهم الطبيعة على أساس أنها فضاء/ سكن رمزي بامتياز ، وليس علامة قد ترتبط ببعد بسيط ، أو أنها "مثيرات لحظية تنتهي بانتهاء اللحظة التي أنتجتها"[3]، فالطبيعي كاستعارة للمكان لا يمكن فهمه إلا من خلال علاقته بمكوناته الوجودية المتعددة وأشكال التلقي لها ، فهل يمكن إذن فهم هذا المعطى/ الأثر الفني من غرضه الأول[4]، وإذا اقتضى الأمر ذلك، قد يصبح هذا الأثر الفني فاقدا لدلالته عندما يتجزأ من غرضه الأول، نتيجة إذا لم يستطع التاريخ حماية هذا الغرض ضمن نفس السياق[5]، وبهذا فإن المكان الذي يصاحب "الرامي" هو ذاته، مكبوته ،مسعاه إلى اللانهائي، رمزه الأبدي الجوال والخاضع إلى التحول الأسطوري، ولا خير أن نجد "اعبيدات الرما" وهم يصورون المكان، يعيدونه إلى أصله، وبالتالي يرجعون هم أنفسهم إلى ذواتهم ، وذلك من خلال أن ما يقع له ما هو إلا خرق لاتفاقات تم الانضباط لها، وهذا الخوف من المجهول يختزل في إحراق رمزية المكان/ الغابة كفضاء يشمل كينونة "الرامي" ويحمي سره من الذيوع ، لهذا فهم يقولون: جيب على الغابة/ فيها جرات العلامة/ في عوينات لمانيع/ حركوها لمصاكيع/ الخير عليه تديع/ البلوط مع الفكيع/ طارت هبهابة/ حركت كاع الغابة/ اتحركوا البلايص/ فيها بنادم عايش/ اتحركوا الخيام/ اتحرك حتى الحمام/ اطفات الناس وعيات/ وكعدوا داروا الصفوف/ بقات الناس تشوف/ تحرك حتى الحلوف/ هذا الشي مكتاب/ تحركوا حتى الذياب/ تبقاي بخير يا الغابة[6].
إن الربط هنا بين الطبيعي/ الوجودي والتخييلي/ الميثي يؤكد على أن هناك صورة دالة على وقائع مجتمعية لا غير، لكن الأساس، ومن مستوى تأويلي يؤدي وظيفة تتجاوز الذات إلى محاولة دفعها لبناء هذا المفارق بين الاتصال والانفصال، بين الواقعي والغيبي، بين أن يكونوا هم كرماة أو لا يكونون كذلك ، ثم إن رمزية الاحتراق هنا تقيدنا إلى النار كأصل للصراع الأبدي، لخلق لإبليس، مقابل التراب الذي هو أصل لأدم، هذا الصراع لا يظهر إلا في مرحلة ليلية، بعد أن يجتمع الناس في خلاء ويتحلقون حول "اعبيدات الرما"، هؤلاء الذين يلعبون بكل شيء، بأجسادهم، بعقل الذكر والأنثى، بخيال الطفل، بأشياء الكون، وكأنهم يمارسون بداهة أفعالا سحرية خارقة لم يألفها منطق الإنسان، فهذا له علاقة بسلطة الطبيعة، بعد أن يتم تحطيم طوطمها وأسرار مقدساتها، وله ارتباط أيضا باستعارة المكان كحاو لرمزية شمولية، يمكنها أن تكون مألوفة في النهار كجمع المؤونة الليلية، وخارقة ليلا خاصة أن "الرامي" يصبح مالكا لأسرار الوجود، وهو هنا يخرق العرف المبني على قاعدة الاعتقاد بالفعل بين الواقعي/ المادي والخيالي/ الروحي، إذ يعي كذات بصيغة الجمع لها نفوذ عجائبي، تمارس السحر والخرق، تنتسج المتخيل من عدم، وتحبك الحكايات التي لا تنتهي، لأن ما يساعدها هو لحظة الليل الذي جرى فيها الخلق، ويشير إلى هذا "الرامي" عندما يشعر بأنه لا يريد الانفصال مرة ثانية عن طبيعته، وهو اللي يقول: "كولو للغابة/ يلا سمحت ربي سماح/ كيف سخيتي بفراقي ثاني"[7]، لذلك "فاعبيدات الرما" يخلقون عالمهم ليلا، ويتمثلون العملية في ذات اللحظة، وهو ما جعلهم مقربين إلى ما هو مستور و مهمش، وتوجد لديهم قرابات روحية مع أولياء وسادات وشيوخ صوفيين، وإعادة خلقهم لمتخيل ما، هو في الأصل نوع من تكسير رمزية سلطة الطبيعة، مقابل إعطاء المكان صورة قابلة للتحول ليلا، وفي التصوف نجد هذا، خاصة عند ابن عربي في كتابه "الفتوحات المكية" إذ يقول: "خلق الله العالم في ظلمة[8] ولهذا نلاحظ أن "الرما" غالبا ما يسكنون في أحاديث المرأة، وربما هذا له امتداد في الثقافة العربية، باعتبارها تكرس ربط كل ما يتصل بالمرأة بالليل، و"الرامي" يعود إليها ليحقق رغبته الدفينة، لأنها انشطرت منه فأحب هذا الألم الذي هو سكنه، فكان شوقه إليها كشوقه إلى طبيعته الأولى[9]، هكذا إذن يبرز المكان/ الغابة عند "اعبيدات الرما" كاختزال للطبيعة الليلية، وما يمكن إضافته إلى هذا ، هو التركيز على عنصر الشكل بخصوص المكان، الذي أشرنا إلى أنه يكون في خلاء، أو فسحة، ولابد أن يكون دائريا، بحيث إن هناك ترابطا بين الداخل والخارج، أي بين الباطن/ السر والظاهر/ الكشف، وإذا تأملنا دائرية المكان هنا، نجد أن "الرامي" داخل إطاره، ينقل لنا مجموعة من المعلومات والأخبار، فلا حسيب ولا رقيب، تنزل السماء إليه، وتصعد الأرض أمامه، وتتحول الأشياء وتمسخ، لذلك فالدائرة في متخيل "الرامي" لا نهائية، يمكن أن يخرقها إن شاء، وهي تأمل وجودي لسلطته الطبيعية الأولى المبحوث عنها داخل إطار الدائرة المتوهمة التي تحمل دلالة وجودية، وقد لاحظنا هذا عند الصوفي من خلال حديثه عن الحروفية، وأشكال تناسقها، "إلا أن تلك الدلالة الوجودية المباشرة تفتحه نحو دلالة رمزية وخفية وأكثر شمولا وسعة تنقل العارف عبر وثبة ممتدة إلى فضاء الكونية والمطلق ، حيث يظهر للصوفي أن الجاهلية الخاصة بالشكل الوجودي الذي يتأمله ، ليست سوى امتداد لجمالية أوسع هي بالضبط جمالية الذات الإلهية التي تتجلى عبر ذلك الكائن المحدود"[10]، وليس شكل الدائرة، إلا مدخلا للجسد الرمزي الذي هو حضرة الرامي/ الشيخ، مقابل أنه محصن ضمن قلعة الرما/ الأحفاد والمريدين، فلا أحد يمكنه أن يتخلى عن الآخر، لذلك نجد أن الوعي بهندسة الدائرة يعود إلى الاكتمال والمطلقية، أي إلى العالم الفوقي الروحي، بحيث إنه عندما يضع "الرامي" خطا دائريا بينه والآخر، فهو يطمح إلى تعضيد علاقته بذاته، مع محاولة ترك هذا الآخر يندمج معه بطرقة البحث عن مكامن السر والسحر، ولا تبدأ وصلة اللعب عند "اعبيدات الرما" إلا عندما تستكمل الدائرة دورتها وشروطها، ولهذا يظهر الرامي عابثا بما يصل إليه من أشياء، ولا هيا بكل الخطابات، حيث ليست له بداية، أو نهاية، " ذلك أن كمال الدائرة يأتي من استحالة تحديد بدايتها ونهايتها، بمعنى أنه ليس للدائرة بداية أو نهاية كما أن ليس لله (سبحانه) بداية أونهاية، من جهة أخرى، تشكل الدائرة كلية حاوية لكل الموجودات، إذ لا شيء يوجد خارج دائرة الكون، ولا شك في أن هذه الصفة من صفات الأولوهية"[11]، لذا فالمكان الدائري يمثل سلطة رمزية موازية لسلطة الطبيعة القاهرة، وهذا يبرز في صورة تحد للرامي أمام المتحلقين، يقول في إطار لازمة تتكرر، كلما شعر أنه يتطرق إلى تيمة جديدة" إلا كنت نظام/ جيب على الغابة"[12]، إذ أن محاولة تجاوز الرامي لهذا الانتظام تجعله إنسانا يقيم في شذوذات لا يفهمها غيره، وحالته تحتل في عجائبية حركاته ولهجته وعلاقاته مع المجتمع والمرأة وبعض الأشياء التي يخلق منها معبرا إلى عمقه الذي هو أصلا خلخلة وعي الآخر.
- دلالة الأسماء بين الرمزية والمخيال والواقعي:
بدءا نحدد الإطار المنهجي الذي نحاول من خلاله إقرار التكامل بين الرمزية (symbolisme) والمخيال (Imaginaire) والواقعي (Réel)، باعتباره سندا يتحقق فيه انسجام الخطاب المحمول، فما أن يتم تدمير كل أبنية النص الشفهي أو المكتوب أو البصري، حتى يبدأ التفكير في فهم وتفسير الرمزي كإشكال يمسك به في المخيال كممكن، وعندما تقام عملية التدمير للمرة الثانية، يستأنف أيضا عمل المخيال للحصول على صورة واضحة تحاول جاهدة تنظيم الفوضى واللاتمييز، كمنجزين يستعيدان هيكلة مغايرة لا تعكس إلا ما هو موجود في سياق العلاقة بين الكائن والممكن، وبهذا تكون كافة أشكال الترابط بين الرمزية والمخيال معرفة جديدة للواقعي بتعبير نيكول إيفرات[13]، ولا يمكن أن نظن بأن تمثل الأسماء الواردة في النصوص الشفهية يرتبط بما هو عفوي، وإنما هو رمزي يشتمل على شذوذات إيحائية متعددة، قد ترتبط بالمقدس، وبالطبيعي، وقد تختزل في أسماء لرجال يمثلون سلطة ما في مرحلة ما، كما هو الشأن في العيطة الحصباوية، عندما يتم ترديد هذا الدور على لسان الشيخة حادة الزيدية (1841-1924) والمشهورة بخربوشة: "المعاشي، سيدي سعيد... مول الزيتونات
الرتناني سيدي الحسين ركراكة مجموعين
مول العلامات زين اللامات.. مولاي عبد الله بن حسين
القدميري، سيدي عمر.. أمولى حمرية[14].
إن مجرد ذكر هذه الأسماء، يدل دلالة واضحة على رمزية معينة لها في مرحلتها، ولعل هذا عندما يقرأ أنثروبولوجيا، يصبح انعكاسا لخلفية تحكم فيها الرمزي في المخيالي، وبالتالي يصير الترابط بن الاسم المحمي به مواجهة ضمنية لسلطة رمزية ضاغطة تتمثل مباشرة في القائد، فبعد الألم التي تعانيه خربوشة، ترجل عن البلد، وتترك الكل لسلطة القائد، ولا تحمل معها إلا معاناتها:
"أش صبرني على فراق الحباب أسيدي.. راه الغدر عيب يا قليبي..
راه، الفراق اصعيب آسيدي، راه خويت بلادي، راه السبة عليه[15]..
أما إذا عدنا إلى "اعبيدات الرما"، فنلفي تعددا في توظيف الأسماء، إلى درجة أنها تغرق في المحلية ولا توضح دلالتها، فمن أسماء الرجال التي تأتي متتالية وخارقة للرمز، أي من رقم خمسة إلى رقم ستة
"كانوا هما خمسة/ وقيلة ستة
معهم علال/ والشيخ بوعزة
معاهم حتى موسى/ والشيخ بن عباس
ومحمد وناصر/ معهم حتى البطاش
مرسولو ما يبطاش
الصيدة بالقرطاس
الوحش ما يخطاش
والرامي..."[16]
ومقابل هذا أيضا نقف على أسماء تلتصق بالطبيعة وأشيائها، وتجعل منها محكيات لا نهائية، بحيث لا تتوقف عند دلالة معينة حتى تنتقل إلى أخرى، لكن ارتباطها مع أصلها لا يدفعها إلى العميق، أو مواجهة المجهول:
"حيحنا في الشعاب الحومر
والو ما لقينا
حيحنا في الدرية
وف الضاية الحايلة
حيحنا ف كعبوش
فيها لقينا الوحوش[17]"
إن ما يسره "الرامي" وهو يتحدث عن الاسم الذكوري والطبيعي يتمثل في استحضاره لثنائية الظاهر/ الباطن التي طالت الكون، وتركت أسئلة كانت أشد تعمقا في التأويل الصوفي : لذلك فعلاقة "الرما" بالوادي ليست عادية، تذكرية فقط، أو مرجعية بالأساس، إنها محاولة لإعادة فهم طبيعة العلاقات الرمزية التي مورست في أشكال طقوسية بدائية، وهو ما يفسر أن حضور أسماء الحيوان إلى جانب أسماء المذكر والطبيعة،يتم قبوله من منظور يضاعف من احتمال مواجهة المصاعب والآخر، فالوادي امتداد لكينونة "الرامي" وشعور بالحياة أكثر من الموت:
"طليت على الوادي تمة تفكرت جوادي
أسيدي ذاك الوادي مزينو بمالي
حاشا من عند الله حتى يبقى خالي
فيه سيد العربي الزين البوهالي
مدفون فيه اشبيشب ياك طويل وعالي
ملي مات شبيشب وأنا ما تزهي لي" [18]
أما الحيوان فيندرج في مجمل النصوص الشفهية كتعبير طوطمي، كما هو الشأن في النصوص القديمة التي وظفته، وإذا كانت مجمل الدراسات قد قلصت من هذا البعد الطوطمي، واعتبرت أن الحيوان كان شريكا للإنسان في الحياة، أو بالأحرى متدخلا فيها، فإنها لم تستطع أن تؤكد على نوعية العلاقة التي جمعت بينهما، وهكذا بقيت الصورة في حدود تبادل الاستفادة من التجارب،كالتلطيف الذي كان لابد أن يحضر في صراع الأشخاص أو النخب ، وتحويله إلى هامش سوسيو ثقافي، إذ يصبح فيه "الحيوان عند "الرامي" تابعا للإنسان، وشيئا من أشياء الطبيعة:
جيب على الغابة
فيها سطيلا نطيلا
فيها اميمت لحسن
كلها يلغي بلغاه
موكا هي الودانة
فيها الفراخ لغلاظ
الغابة فيها الذياب
بوعميرة هو الوجاب
يقلز في التيقار
ويبيض على لقوار
وما يكل غير العيانة
فيها تفرما
عليها وصاو الرما
الغابة فيها غراب
الطير اللي ما عندو صحاب
تبقاي بخير يا الغابة [19]
إن الترابط بين الرمزي والمخيالي ينبني على أساس التدمير، فكلما تم هذا الفعل إلا وتحقق منسوب الواقعي، بحيث إن حضور كل هذه الأسماء الطبيعية والحيوانية والذكورية، ما هو إلا واقع حقيقي يتم تعريفه على مستوى رمزي، من خلال الدفاع عن الذات وحماية كل عناصر الوجود التي لها علاقة بها.
- المرأة كمدلول طبيعي شكلي .
إذا كانت المرأة قد تعومل معها بدرجة غير متساوية مع بقية العناصر الأخرى، فإنها كانت عند "الرامي" تمثل صورة شكلية لعلاقاته مع الوجود وذاته، إذ أن وظيفتها كانت للمتعة والغريزة فقط، بحيث إن كل ما اختزنه "الرامي" في الطبيعة/ الغابة من أسئلة وجودية، لا نجده يحضر في تعامله مع جسد المرأة، لذلك فاستحضاره جاء عفويا له ومرتبطا بخارجه، والوثائق التي بين أيدينا تثبت أن وضعية هذا الجسد لم تكن إلا للاستمالة والاستغواء، فالكتب القديمة لم تهتم به إلا من مستوى المحظور والممنوع والمحرم تارة، والهامش والمنسي تارة أخرى، وإذا كان هذا الكل من هذين المؤشرين يؤكد ذلك، فإن هناك من يعتبره من المصائد التي وظفت في النصوص القديمة لتظهر الصراع الأبدي بين المذكر والأنثى، وقد كان تداول رمزي لهذا المنحى، وتمثله كل من أحمد الثعلبي والإمام أبو حامد الغزالي وزكريا القزويني في كتبهم[20]، وتمت الإشارة إلى أن إبليس "لما نزل إلى الأرض قال: يا رب أنزلتني وجعلتني شيطانا رجيما فاجعل لي طعاما، قال: ما لم يذكر اسم الله عليه، قال: فاجعل لي شرابا، قال: كل مسكر، قال: فاجعل لي مؤدنا ، قال : المزامير ، قال : فاجعل لي قرآنا ، قال : الشعر، قال : فاجعل لي حديثا، قال: الكذب، قال: فاجعل لي معايد، قال: النساء"[21].
إن خارج الجسد كما تم احتواؤه في نص "اعبيدات الرما"، يعضد هذا المنظور ويكرسه، وداخله يبقى مختزنا لأسراريته، لذلك من البديهي أن نجد التضاد كبنية يحملها الجسد بين سطحه وعمقه، فالسطح عورة أخلاقيا، محرم اجتماعيا وعرفيا، أما العمق فيؤكد انتماءه إلى قيم هي بالأساس امتداد للأول، هكذا أنلمح تعاطي "الرامي" للعلاقة بينه والجسد من رؤية تغزلية مناوئة، يقول:
"بلغو مر سولي لدوك البنات
دوك الركاكات المسلوتات
في المحطة كانوا جيراني
كانوا هناك عشران معايا
حبكم جار علي ولا عندي نوبة
هذي كية مكتوبة" [22]
وعلى الرغم من هذا، فإن الرامي عندما يرتبط بالمرأة كقيمة أيقونية لها دلالة شكلية فقط، نلاحظ أنه يجعلها مرتهنة بما هو ذاتي، ويتحدث عنها من مستوى تشييئي كتشبيهها بالحيوان (السرادا) أو آلة لإعداد الشاي (براد)، يقول الرامي واصفا جمال المرأة:
"فين ما نشوف الزين ندي ليعتو
الزين الركيك ظاهر من تحزيمتو
لبنات كيف السرادا خيي كلا وقيمتو
العيون يبانو كوحل والعنق بشمامتو
فمها براد أتاي مشحر بيقامتو
كيف يدير مول "الزين اسيدي حتى يفارقو"[23]
ويقول أيضا:
"الصدريبان لي مشح كاتبة فيه لقراية
الفم ألالة أحمر تكول ليه كوار الودايا
لالة راني مريض أجي وري لي الدوايا"ا[24]
وما يمكن الوقوف عليه، هو أن "الرامي" له رؤية ذاتية تتمثل السخرية أمام جسد غير مطاوع، وليس هذا الأخير إيجابيا أو سلبيا، وإنما قد ينفتح على أبعاد خلافية تثير حفيظة "الرامي" وتدفعه لمقاومته، ونزعه لمواجهة تؤكد أن وضعيته الاعتبارية غير واضحة، وبالتالي فهو إما يعود به إلى أصله الواحد، أو يدحوه عنه.
"فمك اضيق من الخاتم عينيك اوسع من الكأس
علاش عليك بالجماعة ديري واحد كي الناس"[25]
أو "الزين راه مخربقني ساكن في الشلوح
شوف الطفلة كي الغابة سيدي غربلها ولوح"[26]
إن كل هذه التيمات التي تناولناها، لا تحصر لنا علاقة "اعبيدات الرما" بواقع مجتمعهم، ولا يتمثلهم لعوالم معينة، بل حاولنا أن نقارب بعضا من المداخل التي اختزنتها الأغنية الشعبية، كنص شفهي يعبر عن وعي يتسم بالمحلية وبالعمق حسب الظرف الاجتماعي، لكن تبقى الأسئلة القوية مترجحة بين القبول والرفض لهذا الوعي، بحيث لا يمكن قبوله كمعطى ساذج مألوف، ولا رفضه من منظور أنه مجرد بقايا لذاكرة تقليدية جاهلة، بل لابد من تقويمه كنسق ثقافي يختزل سيرورة مجتمعية ويطور أفق ترحاله ضمن دراسات إثنولوجية وأنتروبولوجية وسوسيولوجية عميقة وذات أهمية خاصة بالإنسان في علاقته بالجماعة .
هكذا تكون ظاهرة عبيدات الرما بمنطقة الغرب شراردة بن احسن لها خصوصيتها ، إذ يدخلها البعض في الأدب الشعبي 27 ، أو في فن العيطة ، يحدد حسن نجمي هذا اللون من العيوط قائلا :" وتعرف العيطة الغرباوية أساسا بمتتالية من المتون الشعرية التي تقدم جملة من المدائح والمقاربات الوصفية للغابة ، بل يمكننا أن نتكلم عن ثيمة مركزية من ثيمات العيطة في المغرب مخصصة للتغني بالفضاء الغابوي ؛ وذلك ضمن نسق الهيت بتعدد أساليبه اللحنية والإيقاعية ( الكلبي ،الحلوفي ، الحدادي ، القرادي ، الفرادي ، الشدادي ...)، كما أن أشياخ الهيت يميزون على المستوى الشعري في أغاني الغابة بين نمطين : نمط حرفي ( بترقيق الراء ) ونمط ثان يطلق عليه غابة الغيوان" 28 ، لذا فهذا اللون من الكتابة /الإنشاد الشفهي –إن جاز لنا القول بذلك – يمكن اعتباره يشخص كل ما يرتبط بأوضاع المنطقة ، ظاهرها وباطنها ، وبالتالي فهو اختزال لصورتها في حدود بيئتها ، إذ يرسم أفراحها وأتراحها ، وهذا يظهر من خلال محافل الإحتفالات والطقوس والعادات والمواسم .
إحالات وهوامش .
1- حسن بحراوي إيثنوغرافيا المسرح المغربي الغابة المرأة والمجتمع نماذج من كلام الرما أنوال المغرب يوليوز 1992, العدد 805، صف حة 8.
2- G Bataille. L’expérience Intérieure Gallimard. 1995. Paris P.93
3- أمبيرتو إيكو. التأويل بين بورس ودريدا. ترجمة سعيد بنكراد علامات المغرب. العدد 11. 1999. ص21. أنظر الهامش رقم 4 للمترجم بالتدقيق.
5-4أنطوان كومبانيون. الفيلولوجية والتأويلية. ترجمة محمد الولي علامات. المرجع السابق ص. 42
7-6 حسن بحراوي إتنوغرافيا المسرح المغربي. مرجع سابق ص.8
8- لا ينطلق إبن عربي من فكر ميتي فلسفي ، وإنما يتحدث من منطلق التأويل الرمزي الذي يشتغل على لغة تقرب بين الظاهر والباطن ، دار صادر بيروت (دت)
9- ابن عربي الفتوحات المكية. الجزء الثاني . ص 56
10- منصف عبد الحق. الكتابة والتجربة الصوفية – نموذج محيي الدين بن عربي ، منشورات عكاظ. الطبعة الأولى . 1998 ص. 81
11- عبد الصمد الديالمي. نحو ديمقراطية جنسية إسلامية. مطبعة أنفو- برانت ، الطبعة 1 ص. 41
12- حسن بحراوي إثنوغرافيا المسرح المغربي. مرجع سابق، نفس الصفحة 8
13- نيكول إيفرات- دسمت. الرمزية والمخيال والواقعي ترجمة سعيد بنكراد. علامات مكناس/ المغرب. العدد 3 السنة الأولى. ربيع 1995 . ص 70- 71
15-14- المهدي الكراوي. خربو شة. الحقيقة والمأساة. جريدة الاتحاد الاشتراكي. المغرب عدد 6945. غشت 2002. ص.10
18-17-16 -19- حسن بحراوي. إثنوغرافيا المسرح المغربي .مرجع سابق . صفحة .8
20- أحمد الثعلبي. قصص الأنبياء المسمى بالعرائس. دار الرشاد الحديثة . بيروت د ت ص 25
- الإمام أبو حامد الغزالي. مكاشفة القلوب المقرب إلى حفرة علام الغيوب. تحقيق محمد رشيد القباني . دار إحياء العلوم. بيروت الطبعة 3 .1987 ص 61-62
- زكريا القزويني . عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات. تحقيق فاروق سعد. دار الآفاق الجديدة بيروت 1973 . ص 388.
21- محمد أسليم. ذاكرة الأدب. مطبعة سندي. مكناس 1999 الطبعة الأولى ص 49 أنظر خصيصا الهامش رقم (34).
22- 26-25-24-23حسن بحراوي. إثنوغرافيا المسرح المغربي. مرجع سابق . ص 8.
27- سعيد علوش الأدب الشعبي في منطقة الغرب(،نموذج اعبيدات الرماية ) .كتاب منطقة الغرب ،المجال والإنسان ، منشورات كلية الآداب والعلوم لإنسانية بالقنيطرة ،أكتوبر1991
28 - حسن نجمي . غناء العيطة . الشعر الشفوي والموسيقى التقليدية في المغرب .الجزء2 .دار توبقال للنشر. الطبعة 1 صص.108-109 .
صحافة
السبت، 12 يوليوز 2008
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
هناك تعليق واحد:
شكرا ولك جزيل العطاء
إرسال تعليق