الذاكرة وعين السارد
قراءة في نماذج سردية لعبد القادر الشاوي
د . محمد صولة
يعتبر أدب السجون من بين أهم الكتابات الإبداعية التي اختزلت التجربة الحياتية في مختلف صنوفها للكاتب داخل السجن، ومن هذا المنظور، يمكن القول إن التجربة التي عاشها المبدع في قلب معتقله استطاعت أن تخلق نمطا إبداعيا نوعيا، كان إلى حدود القرن التاسع عشر، شبه مغيب، على الرغم من أننا نجد بعض التوظيفات هنا وهناك عند البعض ، وبطريقة مقنعة، خاصة عندما يتم الحديث عن فضاء السجن أو تجربة الاعتقال حبيسة نزعة ذاتية غير واضحة ، لكن مع ضرورة الانفتاح على الأسئلة الاجتماعية و السياسية الراهنة ، بخصوص أهم الإشكالات ذات الخصوصية النوعية التي برزت كالديمقراطية، وثقافة حقوق الإنسان، وقيم المواطنة، والعدالة الاجتماعية، والانفتاح على الآخر، ونقد الذات، بات من الطبيعي أن يعيد الكاتب رسم صورته، ووضعها في إطارها الإنساني، بحيث يجعلها خاضعة إلى التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وبالتالي فإن انتسابها إلى هذه الدينامية يدفعها إلى تجاوز اللحظات الحرجة الذاتية والموضوعية.
الإشكـــال الأجناســي:
إن العودة إلى السرود المغربية، وبنظرة دقيقة، نلحظ أن إسم عبد القادر الشاوي يعتبر من أهمها في الكتابة السردية السجينة، إن لم يكن أقواها وأعمقها، وذلك نتيجة رؤيته العاكسة بصدق حجم المعاناة والمحللة للتفاصيل الوجودية المعيشة داخل المربع الأسود، وضمن هذه السرود يبرز الإشكال التجنيسي، فمرة هو أتوبيوغرافيا ومرة أخرى رواية، وثالثة يتأرجح بينهما، ولعل هذا ما نجده في "كان وأخواتها" كرواية عن دار النشر المغربية، البيضاء 1987، و "دليل العنفوان" كسيرة ذاتية عن منشورات الفنك البيضاء 1989، وباب "تازة" عن منشورات على الأقل الرباط 1994 و"الساحة الشرفية" عن منشورات الفنك البيضاء 1999، وبقدر ما تتعدد هذه الانشغالات في التعامل مع أشكال السرد في التعبير عن التجربة وما يتصل بها، بقدر ما جاءت كردود أفعال واعية على مرحلة بأكملها، "إلا أن ما يميز عبده- إلى جانب عبد الله العروي- عن الكثير من كتاب السيرة الذاتية بالمغرب هو أن الكتابة السير-ذاتية عنده لم تنتج من فراغ في التجربة، أو جاءت كنتيجة لإرغامات نوسطالجية فقط، بل إنها أتت كإجابة عن العديد من الأسئلة المتصلة بصوغ سؤال الأزمة والذات والكينونة، في علاقتها بتحولات الزمن والمكان والعالم بشكل عام "[1] هذا التعدد الأجناسي منح عبد القادر الشاوي تنويع أساليب التغيير، وربما حتم عليه إضافة كتابة سردية نوعية تمزج بين الواقعي والتخييلي، بين الذات وخارجها، باعتبار أن "دليل العنفوان"[2] هي أجناسيا رواية، لكنها منذ سطرها الأول في القسم الأول المعنون ب "الخلطاء" ،تتأكد مراكمة السير ذاتي على حساب المتخيل الروائي، ويأتي على لسان السارد بضمير المتكلم في "دليل العنفوان" ما يلي: "أقمت في بداية الشتاء في مسكن متواضع يطل على الجوطية"[3] وأيضا نجد في "الساحة الشرفية" صيغة ضمير المتكلم، "عندما وصلت إلى براندة، في تلك الأيام من شهر غشت، كانت سنوات الجفاف، فعلا، قد قسمت نوعا ما على تلك المناطق الجبلية المنيعة... أو هكذا توهمت! [4] ونفس الأسلوب نلحظه في رواية "باب تازة"، "شرعت في كتابة هذه الأوراق، كما اتفق، بعيد إطلاق سراح المفضل وخروجي من باب تازة، وأنا على حال من الغيظ كظيم،..."[5] هكذا تتمظهر إواليات الأتوبيوغرافيا وهي تحرص على شكلنة الكتابة السردية من منظورات جديدة، إذ تتغيا تحقيق كلفة المعاناة من خلال مساءلة الذات والموضوع ، وذلك في إطار العلاقة بين الكاتب والقارئ، أي بين الواقع النصي كمعطى والمرجعية التي تختزل كل ما يرتبط بالخارج وذاكرته المتنوعة.
لقد كان من الضروري أن يتم إعمال الأسلوب الواقعي لتبرير الربط بين النص ومحيطه، أو الاشتغال على تخييل ما بغية إعادة إنتاج تعالقات تراكمات الذات وما يستلزم تشييدها وهندسة معماريتها، لكن في سرود عبد القادر الشاوي نلاحظ هذه الصيغة المتعدية غير اللازمة في كتابة الحكاية، وفي لغتها وكيفية بنائها، مثلا "يمكن القول إن رواية" دليل العنفوان" تؤكد لنا، مثل بعض النصوص الجيدة، أن متعة النص يمكن أن تتحقق من خلال مادة أولية شديدة الصلة بالمجتمع وهمومه وأسئلته، إذا ما أتيح لها وعي فني يعرف كيف يقيم المسافة الضرورية بين الوقائع ومقتضيات التخييل ومد جسور الكلام"[6]، ومع أن طبيعة الربط" بين المتن وخارجة تبدو بعد الأحيان ملزمة في مرحلة ما من حياة الكاتب، خاصة إذا كانت تستعيد صور الطفولة، أو الشباب، أو توثق معاناة السجين، كما هو حاصل في أدب عبد القادر الشاوي السردي، إذ أن هذه الفرادة المخصوصة تختزل حياة مأزومة في ظل مرحلة إستثنائية ، لكن عبد القادر الشاوي تجاوز الكتابة السير ذاتية من طرحها الكلاسي إلى الحديث والمعاصر، وهكذا اتضح التميز في الرؤية واللغة والدلالة.
ســؤال وجــع الذاكــرة:
إن تمظهرات أدب السجون تتأسس على مجموعة من آليات المرجعية السجنية، فمن خلالها يستعيد المؤلف ذاته وموضوعه بالكامل ، ثم يستأنف تحقق شرطه الطبيعي بتركيزه على محكي الذاكرة، هكذا نلحظ الاهتمام المكثف بالعلاقة المتماهية بين النص المكتوب والنص المفكر فيه تخييلا، والنص المتخيل، بحيث تصبح التجربة المنكتبة"ذاتيا" تختزل التاريخ والتراث والفكر والمجتمع، ومع تنامي المد التحرري، بعيد الحرب العالمية الثانية، هيمنت الاتجاهات الفكرية التحررية مثل القومية والاشتراكية والوجودية، وتبلورت مقولات مثل الوطن والطبقة، والأمة، والفرد، والحرية والالتزام، كل ذلك ساهم في إعطاء الرواية العربية مكانة متميزة، على مستوى الحضور المتميز كخطاب فني، يعانق مختلف قضايا المجتمع ويساهم في تفكيك مختلف بنياته، ويرصد مجمل المشاكل الكبرى للصراع الاجتماعي والسياسي..."[7] ، كل هذا التراكم الذي كان محفزا للكتابة السردية، عزز في الوقت نفسه نفس الأدب السجني، خاصة أن جل السرود انبنت على وعي سياسي اختلافي ومغاير.
في رواية "دليل العنفوان" لعبد القادر الشاوي، وغيرها من سروده، تتم الإشارة إلى وجع الذاكرة، باعتباره خالقا للمحكي، ويبرز في مستويات لغوية وخطابية ودلالية جد متميزة، تأتي على الشكل التالي:
- "تجربة تذكرني دائما بوجع وضجر، لأنني بقيت تلك الليلة على توتر لا يغتفر لذوي الذوات المحرومة مثلي"[8].
- "لسوف أذكر الآن تاريخا يعبق بشذى الأويقات الحالمة[9].
- "كان من المفروض في الفقرة السابقة، أن أعود بك إلى الوراء"[10].
- "الفترة وأناأكتب هذا، محدودة، في منطقة من ألياف الذاكرة المصونة"[11]
- "أما الذكريات فشهوة الحكاية،لا تجد من لا يتماهي فيها مع الحياة الماضية...إلا من كان صغيرا حافيا لم يكتو أيامها بشواظ الإكتشاف اللابد على الصدور."[12]
- "لا يمكن أن أفكر في مصطفى بعيدا عن الدرب، لم يكن فيه اللقاء الأول فقط، بل الأخير كذلك، أعني أن الأبعاد التي صارت للعلاقة التي قامت بيننا مع الوقت كانت، في الواقع، جزءا من الماضي والذكريات المشتركة، المشتركة في الحدود الضيقة الممكنة، من المكان نفسه، المكان المأهول بالحركة والصراخ"[13]
- "إني لا أذكر شيئا إلا تاريخ الخروج، أتعرف متى؟"[14].
هذه المقتطفات التي اجتزأناها من سردياته، تثبت لنا مدى حضور تلك المرآوية التي تؤثث فضاءات الأسى والحزن في الرواية أو السيرة، وبالتالي تلزم السارد الناطق بضمير المتكلم على العودة إلى ذاته وربطها بتاريخها الثقافي والسياسي، حيث لا مكان للمعاناة خارجها، فالنص هو الذات، وهما معا مساهمان في رحلة باطنية تلتصق بالسياق السوسيو-ثقافي من خلال المحتوى وشروط الإنتاج معا[15]، ومهما تم الدمج بين الذاتي والتخييلي من هذا المنطلق، فإن صورة الذات تبقى مهيمنة على باقي الصور الأخرى، خاصة إذا كان عمقها يتواشج فيه الزمان والمكان وتوالد الأحداث، فالكتابة السردية هنا هي أشبه بسيرة ذاتية، تلخص مراحل حياتية متنوعة ومهمة، لكنها بعض المرات تبدو غير منظمة،" مازلت تتعثر في الماضي. إن الماضي أمامك وخلفك وفي أنحاء من خلاياك، هاجع كأنما دوخته شمس أبدية، ولست أبدا، لا في الطفولة المنتقاة... شروخ في البدن، أوار في البدن، خيلاء وحكي مستعر"[16] هذا الإحساس برزء الماضي وخيبته، والشعور بمدى وضراوة تحمل استعادته يجعلان من سردية الذات ومن كينونتها الفردية كلية، على الرغم من أوجاعها وتقطعاتها، وبذلك فهي إنتاج للوعي ومنتوج له في نفس الآن[17].
يمكن أن نقول بأن طرح عبد القادر الشاوي لتيمة السجن في كتابته السردية، لم يأت هكذا بدون معيش أو معاناة، بل كان جزءا من واقع تجسد في أسئلة لم يتم الحسم فيها ومرتبطة بمحاولة ترميم الوعي لمرحلة، وبذلك فاسترداده للذاكرة هو تأصيل لرؤية عميقة ، وهي تسافر في الذات نحو أقاصيها، إنها "رحلة تستعمل معطيات فضاء مهمش، منسي، وأشخاص يختنقون في متاهة الحاضر، لتؤكد على أهمية الكتابة كوسيلة للتخلص من غبار الزمن المتراكم على سطح الذكراة، كل المغريات تدفع إلى النسيان وحذف الأسئلة لكن الهوية في العمق مهددة بالتلاشي"[18].
فضاء السجن عين السارد
حقيقة أن السجن كفضاء في السرد الروائي العربي عامة والمغربي خاصة، خلق تحولا نوعيا في التعامل مع مرحلة كانت على أشدها أكثر شراسة واحتقانا، ولعل هذا التمثل عند الروائيين أظفى مسحة من الواقعية على أسئلة المجتمع ومثقفيه، إذ أن السرد أثار جملة من الإشكالات التي كانت مغيبة، ويستعصي نقاشها، وهو ما دفع بالذين عاشوا مرارة السجن أن يفجروا هذا المحرم ويفضحوا مكبوته، وبالتالي يقومون بتعرية سوءاته وإظهارها جلية، وهكذا" يقوم السارد بفضح كتابته أيضا باعتبارها "كذبا" سرديا و "فنتازيا" حكائية، عبر اللجوء الفضحي لمجموعة من الأساليب واللجوءات السرية الأخرى"[19]، وسوف لن يتم الإكتفاء بهذا فقط، بل سيذهب الكاتب بصحبة السارد إلى أبعد من المعاناة، موثقا بذلك تاريخ العذاب داخل السجن، وراسما هندسة القمع ضمن صورة اختزلتها المؤسسات القامعة في القتل والاغتيال والتعذيب والنفي والتنكيل والإقصاء، لذلك نلحظ أن فضاء السجن كان في جل الروايات التي اهتمت بالموضوع عينا دقيقة للسارد، وهي في الأصل للكاتب الذي عاش محرقها وعانى من ويلاته.
ولقراءة هذه الصور، يمكن أن نشير بدقة إلى رواية "الساحة الشرفية" التي تعتبر من أهم الروايات المغربية المهتمة بالسجن في شموليته وفي تعدديته، وهكذا نلحظ ذلك على الشكل التالي:
- "الاعتقالات التي ستؤلف بين قلوبنا داخل السجن"[20]
- "تأخر كثيرا عن الموعد الذي ضربه لنا في السجن: "لن أعود أبدا، وسترون بعد الخروج"[21].
-"كذلك كان متاعنا الحقير، متاع أولئك الذين أمضوا في السجن"[22]
-"....لكن السجن لا يتبدل، الوجود داخل السجن لا يتبدل..."[23]
-"...وإذا تاقت نفسه إلى الإشراقة في الليل السجني الثقيل قصد (قاعة التلفزة للترويح)"[24]
-"وفي السجن رأيته مجرد الوجه: أنف دقيق بعض الشيء يعكس، كما توقعت منه اليوم الأول، طبعا حادا لا يعرف المراوغة"[25].
-"سنوات تمضي وأخرى تجيء دون أن يغتر الذين كانوا في السجن وقتذاك لأتفه الأسباب أن شيئا في البلاد قد تغير"[26]
-"قلت لها ذات يوم بأن السجن يحول عواطف الرجل إلى "امرأة" "وادعة"[27].
-"في الزنزانة حالة من الاختناق الممزوجة بالرائحة التي كانت تفوح من المرحاض كلما تنفس المجرى"[28]
-"ولما دخلت بنا السيارة العسكرية إلى فضاء عار قيل لنا إنها الساحة الشرفية، وسنعرف فيها بعد أن الساحة الشرفية هي المكان الذي يستوي فيه العلم الوطني، ومنها تتفرع الطرقات والاتجاهات نحو أحياء السجن المترامية"[29].
-"السجن طفولة الماضي وحصن الذكريات"[30]
إن السجن من هذا المنظور، يصبح فضاء تتقابل فيه شتى صنوف الأوجاع والمعاناة، وهو هنا مواز للداخل بالنسبة للذات الكاتبة والمنكتبة وخارجها كما أسلفنا، في حين أن عين السارد وهي تلتقط تفاصيل المكان لجعله يشذ عن صورته الأولى، فمن توصيف للعلاقة بينه والتمثل الواقعي أو الذهني أو المجرد، إلى ربطه بالأسئلة السياسية والثقافية، والمعارك الاجتماعية وغيرها، وتختلف معطيات السارد حسب اختلاف باقي الشخصيات الأخرى ، و"في هذه الفترة كان إدريس العمراوي منهارا، وكان مصطفى درويش خائنا، وعبد العزيز صابر فردانيا ذاتيا ملعونا، فلا هو بالخائن لأنه لم يكن قائدا، ولا هو بالمنهار، ... أما أحمد الريفي فكان عدميا لم يجد له حمدان صفة غيرها: "[31] ذلك أن السارد وهو يسرد بضمير المتكلم، لا يألو جهداعندما يستعيد صورته وصور الآخرين داخل السجن، ويعمق هذه العلاقة بواسطة استحضاره لنصوص غائبة يتفاعل من خلالها مع المكان" سمع المقرئ خلفه يردد "وترى الأرض هامدة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج" ربما كان يضيف وهو يبتعد قليلا "له ما في السماوات وما في الأرض"[32] أو "تذكر المعري وقال معه: خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد"[33]، فالفضاء السجني يختزل الصورة الوجودية للسارد، وفي نفس الوقت يستثمرها ليشكل ذاته ويهندس خلاياها وتمظهراتها، وبالتالي تبرز كمدونة توثيقية لأهم المراحل السجنية.
وفضاء السجن في الرواية، هو فضاء مغلق على ذاته، وكلما كان ينفتح إلا ويحكم استغلاقه من طرف مؤشرات وعلامات المكان، بحيث لا يكاد تظهر فيه فجوة إلا وتنسد فتحل محلها غيابات والتباسات"، في الدرب تعودت على صورة إدريس خلف العصابة التي كانت تغطي عينيه بحكم الحوار. لعله كان يراني على نفس الهيئة فأبدو له على نحو ما كان يتصورني عليه. أنا الشبيه تقريبا، على الأقل بتلك العصابة التي كانت تحزم عيني"[34] وفي اللغة أيضا نحس بهذا من خلال قول الحارس الإدريس العمراوي "إيوانعاس لمك"[35]، وكم مرة سمعت إدريس يقول للحارس هذا "نوض نبول الحاج؟ فيقول الحاج: نوض تبول. وأحيانا لا يقول شيئا[36]، هكذا نجد أن السارد وهو يروي الوقائع، يستثمر كافة عناصر الحكي، بل يلجأ أحيانا إلى الإيهام باختلاف خطابات الشخصيات واستخدام السخرية وتمثل التقنيات الحديثة كالحذف والاسترجاع والتمويه والتقطيع.
خاتمــــة:
هذه قراءة أولية لسرد عبد القادر الشاوي السجني، تحاول أن تستعيد معه بعض الأسئلة التي راهن عليها ثقافيا وسياسيا، لكنها اختزلت في إنتاجات إبداعية عوضته عن ذلك كل المراحل التي شكلت له تجربة أدب السجون، وبالتالي جعلته ذاكرة حية ومرجعا له أهلية مخصوصة بالنسبة لهذا المنحى.
إحالات وهوامش :
[1] - عبد الرحيم العلام . الذات والكتابة قراءة في دليل العنفوان لعبد القادر الشاوي.مقدمات .عدد.13 .-1998 .البيضاء .ص87 .
[2] - عبد القادر الشاوي . دليل العنفوان . الفنك الطبعة 1 البيضاء.
[3] - نفسه، ص13.
[4] - عبد القادر الشاوي، الساحة الشرفية .الفنك. 1999. البيضاء. ص5.
[5] - عبد القادر الشاوي. باب تازة . منشورات الموجة . الطبعة الأولى . 1994. الرباط . ص7.
[6] - محمد برادة. نص مواز على ظهر غلاف رواية "دليل العنفوان" مرجع سابق.
[7] - سعيد يقطين، الرواية العربية، من التراث إلى العصر (من أجل رواية تفاعلية عربية) علامات، المغرب، العدد 20. 2003 ص40.
[8] - عبد القادر الشاوي، دليل العنفوان، مرجع سابق، ص27.
[9] - نفسه، ص66.
[10] - نفسه، ص92.
[11] - نفسه، ص96.
[12] - عبد القادر الشاوي، الساحة الشرفية. نشر الفنك . البيضاء المغرب، 1999، ص24.
[13] - نفسه، ص ص 154-155.
[14] - عبد القادر الشاوي، باب تازة، منشورات الموجة،مرجع سابق . ص10.
[15] - Hana Jechova et jaques voisine. Les voyageurs devant l’événement révolutionnaire. Cahier d’Histoire Littéraire comparée. N° 5-6 Imprimerie Centrale de L’Artois 1981. P113.
[16] - عبد القادر الشاوي، دليل العنفوان، مرجع سابق . ص75.
[17] - Géorgegusdorf. Auto-bio graphie, Edition odile Jacob 1991 Paris P42.. نقلا عن عبد القادر الشاوي مقدمات .عدد مزدوج 13- 14 صيف خريف 1998. ص54.
[18] - عبد القادر الشاوي، باب تازة،مرجع سابق، انظر المكتوب على ظهر غلاف الرواية كنص مواز.
[19] - عبد الرحيم العلام، الذات والكتابة ... مرجع سابق . ص89.
[20] - عبد القادر الشاوي، الساحة الشرفية، مرجع سابق . ص95.
[21] - نفسه، ص98.
[22] - نفسه، ص99.
[23] - نفسه، ص101.
[24] - نفسه، ص109.
[25] - نفسه، ص111.
[26] - نفسه، ص ص120-121.
[27] - نفسه، ص132.
[28] - نفسه، ص154.
[29] - نفسه، ص182.
[30] - نفسه، ص106.
[31] - نفسه، ص106.
[32] - نفسه، ص228.
[33] - نفسه، ص229.
[34] - نفسه، ص110
[35] - نفسه، ص110.
[36] - نفسه، نفس الصفحة.
قراءة في نماذج سردية لعبد القادر الشاوي
د . محمد صولة
يعتبر أدب السجون من بين أهم الكتابات الإبداعية التي اختزلت التجربة الحياتية في مختلف صنوفها للكاتب داخل السجن، ومن هذا المنظور، يمكن القول إن التجربة التي عاشها المبدع في قلب معتقله استطاعت أن تخلق نمطا إبداعيا نوعيا، كان إلى حدود القرن التاسع عشر، شبه مغيب، على الرغم من أننا نجد بعض التوظيفات هنا وهناك عند البعض ، وبطريقة مقنعة، خاصة عندما يتم الحديث عن فضاء السجن أو تجربة الاعتقال حبيسة نزعة ذاتية غير واضحة ، لكن مع ضرورة الانفتاح على الأسئلة الاجتماعية و السياسية الراهنة ، بخصوص أهم الإشكالات ذات الخصوصية النوعية التي برزت كالديمقراطية، وثقافة حقوق الإنسان، وقيم المواطنة، والعدالة الاجتماعية، والانفتاح على الآخر، ونقد الذات، بات من الطبيعي أن يعيد الكاتب رسم صورته، ووضعها في إطارها الإنساني، بحيث يجعلها خاضعة إلى التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وبالتالي فإن انتسابها إلى هذه الدينامية يدفعها إلى تجاوز اللحظات الحرجة الذاتية والموضوعية.
الإشكـــال الأجناســي:
إن العودة إلى السرود المغربية، وبنظرة دقيقة، نلحظ أن إسم عبد القادر الشاوي يعتبر من أهمها في الكتابة السردية السجينة، إن لم يكن أقواها وأعمقها، وذلك نتيجة رؤيته العاكسة بصدق حجم المعاناة والمحللة للتفاصيل الوجودية المعيشة داخل المربع الأسود، وضمن هذه السرود يبرز الإشكال التجنيسي، فمرة هو أتوبيوغرافيا ومرة أخرى رواية، وثالثة يتأرجح بينهما، ولعل هذا ما نجده في "كان وأخواتها" كرواية عن دار النشر المغربية، البيضاء 1987، و "دليل العنفوان" كسيرة ذاتية عن منشورات الفنك البيضاء 1989، وباب "تازة" عن منشورات على الأقل الرباط 1994 و"الساحة الشرفية" عن منشورات الفنك البيضاء 1999، وبقدر ما تتعدد هذه الانشغالات في التعامل مع أشكال السرد في التعبير عن التجربة وما يتصل بها، بقدر ما جاءت كردود أفعال واعية على مرحلة بأكملها، "إلا أن ما يميز عبده- إلى جانب عبد الله العروي- عن الكثير من كتاب السيرة الذاتية بالمغرب هو أن الكتابة السير-ذاتية عنده لم تنتج من فراغ في التجربة، أو جاءت كنتيجة لإرغامات نوسطالجية فقط، بل إنها أتت كإجابة عن العديد من الأسئلة المتصلة بصوغ سؤال الأزمة والذات والكينونة، في علاقتها بتحولات الزمن والمكان والعالم بشكل عام "[1] هذا التعدد الأجناسي منح عبد القادر الشاوي تنويع أساليب التغيير، وربما حتم عليه إضافة كتابة سردية نوعية تمزج بين الواقعي والتخييلي، بين الذات وخارجها، باعتبار أن "دليل العنفوان"[2] هي أجناسيا رواية، لكنها منذ سطرها الأول في القسم الأول المعنون ب "الخلطاء" ،تتأكد مراكمة السير ذاتي على حساب المتخيل الروائي، ويأتي على لسان السارد بضمير المتكلم في "دليل العنفوان" ما يلي: "أقمت في بداية الشتاء في مسكن متواضع يطل على الجوطية"[3] وأيضا نجد في "الساحة الشرفية" صيغة ضمير المتكلم، "عندما وصلت إلى براندة، في تلك الأيام من شهر غشت، كانت سنوات الجفاف، فعلا، قد قسمت نوعا ما على تلك المناطق الجبلية المنيعة... أو هكذا توهمت! [4] ونفس الأسلوب نلحظه في رواية "باب تازة"، "شرعت في كتابة هذه الأوراق، كما اتفق، بعيد إطلاق سراح المفضل وخروجي من باب تازة، وأنا على حال من الغيظ كظيم،..."[5] هكذا تتمظهر إواليات الأتوبيوغرافيا وهي تحرص على شكلنة الكتابة السردية من منظورات جديدة، إذ تتغيا تحقيق كلفة المعاناة من خلال مساءلة الذات والموضوع ، وذلك في إطار العلاقة بين الكاتب والقارئ، أي بين الواقع النصي كمعطى والمرجعية التي تختزل كل ما يرتبط بالخارج وذاكرته المتنوعة.
لقد كان من الضروري أن يتم إعمال الأسلوب الواقعي لتبرير الربط بين النص ومحيطه، أو الاشتغال على تخييل ما بغية إعادة إنتاج تعالقات تراكمات الذات وما يستلزم تشييدها وهندسة معماريتها، لكن في سرود عبد القادر الشاوي نلاحظ هذه الصيغة المتعدية غير اللازمة في كتابة الحكاية، وفي لغتها وكيفية بنائها، مثلا "يمكن القول إن رواية" دليل العنفوان" تؤكد لنا، مثل بعض النصوص الجيدة، أن متعة النص يمكن أن تتحقق من خلال مادة أولية شديدة الصلة بالمجتمع وهمومه وأسئلته، إذا ما أتيح لها وعي فني يعرف كيف يقيم المسافة الضرورية بين الوقائع ومقتضيات التخييل ومد جسور الكلام"[6]، ومع أن طبيعة الربط" بين المتن وخارجة تبدو بعد الأحيان ملزمة في مرحلة ما من حياة الكاتب، خاصة إذا كانت تستعيد صور الطفولة، أو الشباب، أو توثق معاناة السجين، كما هو حاصل في أدب عبد القادر الشاوي السردي، إذ أن هذه الفرادة المخصوصة تختزل حياة مأزومة في ظل مرحلة إستثنائية ، لكن عبد القادر الشاوي تجاوز الكتابة السير ذاتية من طرحها الكلاسي إلى الحديث والمعاصر، وهكذا اتضح التميز في الرؤية واللغة والدلالة.
ســؤال وجــع الذاكــرة:
إن تمظهرات أدب السجون تتأسس على مجموعة من آليات المرجعية السجنية، فمن خلالها يستعيد المؤلف ذاته وموضوعه بالكامل ، ثم يستأنف تحقق شرطه الطبيعي بتركيزه على محكي الذاكرة، هكذا نلحظ الاهتمام المكثف بالعلاقة المتماهية بين النص المكتوب والنص المفكر فيه تخييلا، والنص المتخيل، بحيث تصبح التجربة المنكتبة"ذاتيا" تختزل التاريخ والتراث والفكر والمجتمع، ومع تنامي المد التحرري، بعيد الحرب العالمية الثانية، هيمنت الاتجاهات الفكرية التحررية مثل القومية والاشتراكية والوجودية، وتبلورت مقولات مثل الوطن والطبقة، والأمة، والفرد، والحرية والالتزام، كل ذلك ساهم في إعطاء الرواية العربية مكانة متميزة، على مستوى الحضور المتميز كخطاب فني، يعانق مختلف قضايا المجتمع ويساهم في تفكيك مختلف بنياته، ويرصد مجمل المشاكل الكبرى للصراع الاجتماعي والسياسي..."[7] ، كل هذا التراكم الذي كان محفزا للكتابة السردية، عزز في الوقت نفسه نفس الأدب السجني، خاصة أن جل السرود انبنت على وعي سياسي اختلافي ومغاير.
في رواية "دليل العنفوان" لعبد القادر الشاوي، وغيرها من سروده، تتم الإشارة إلى وجع الذاكرة، باعتباره خالقا للمحكي، ويبرز في مستويات لغوية وخطابية ودلالية جد متميزة، تأتي على الشكل التالي:
- "تجربة تذكرني دائما بوجع وضجر، لأنني بقيت تلك الليلة على توتر لا يغتفر لذوي الذوات المحرومة مثلي"[8].
- "لسوف أذكر الآن تاريخا يعبق بشذى الأويقات الحالمة[9].
- "كان من المفروض في الفقرة السابقة، أن أعود بك إلى الوراء"[10].
- "الفترة وأناأكتب هذا، محدودة، في منطقة من ألياف الذاكرة المصونة"[11]
- "أما الذكريات فشهوة الحكاية،لا تجد من لا يتماهي فيها مع الحياة الماضية...إلا من كان صغيرا حافيا لم يكتو أيامها بشواظ الإكتشاف اللابد على الصدور."[12]
- "لا يمكن أن أفكر في مصطفى بعيدا عن الدرب، لم يكن فيه اللقاء الأول فقط، بل الأخير كذلك، أعني أن الأبعاد التي صارت للعلاقة التي قامت بيننا مع الوقت كانت، في الواقع، جزءا من الماضي والذكريات المشتركة، المشتركة في الحدود الضيقة الممكنة، من المكان نفسه، المكان المأهول بالحركة والصراخ"[13]
- "إني لا أذكر شيئا إلا تاريخ الخروج، أتعرف متى؟"[14].
هذه المقتطفات التي اجتزأناها من سردياته، تثبت لنا مدى حضور تلك المرآوية التي تؤثث فضاءات الأسى والحزن في الرواية أو السيرة، وبالتالي تلزم السارد الناطق بضمير المتكلم على العودة إلى ذاته وربطها بتاريخها الثقافي والسياسي، حيث لا مكان للمعاناة خارجها، فالنص هو الذات، وهما معا مساهمان في رحلة باطنية تلتصق بالسياق السوسيو-ثقافي من خلال المحتوى وشروط الإنتاج معا[15]، ومهما تم الدمج بين الذاتي والتخييلي من هذا المنطلق، فإن صورة الذات تبقى مهيمنة على باقي الصور الأخرى، خاصة إذا كان عمقها يتواشج فيه الزمان والمكان وتوالد الأحداث، فالكتابة السردية هنا هي أشبه بسيرة ذاتية، تلخص مراحل حياتية متنوعة ومهمة، لكنها بعض المرات تبدو غير منظمة،" مازلت تتعثر في الماضي. إن الماضي أمامك وخلفك وفي أنحاء من خلاياك، هاجع كأنما دوخته شمس أبدية، ولست أبدا، لا في الطفولة المنتقاة... شروخ في البدن، أوار في البدن، خيلاء وحكي مستعر"[16] هذا الإحساس برزء الماضي وخيبته، والشعور بمدى وضراوة تحمل استعادته يجعلان من سردية الذات ومن كينونتها الفردية كلية، على الرغم من أوجاعها وتقطعاتها، وبذلك فهي إنتاج للوعي ومنتوج له في نفس الآن[17].
يمكن أن نقول بأن طرح عبد القادر الشاوي لتيمة السجن في كتابته السردية، لم يأت هكذا بدون معيش أو معاناة، بل كان جزءا من واقع تجسد في أسئلة لم يتم الحسم فيها ومرتبطة بمحاولة ترميم الوعي لمرحلة، وبذلك فاسترداده للذاكرة هو تأصيل لرؤية عميقة ، وهي تسافر في الذات نحو أقاصيها، إنها "رحلة تستعمل معطيات فضاء مهمش، منسي، وأشخاص يختنقون في متاهة الحاضر، لتؤكد على أهمية الكتابة كوسيلة للتخلص من غبار الزمن المتراكم على سطح الذكراة، كل المغريات تدفع إلى النسيان وحذف الأسئلة لكن الهوية في العمق مهددة بالتلاشي"[18].
فضاء السجن عين السارد
حقيقة أن السجن كفضاء في السرد الروائي العربي عامة والمغربي خاصة، خلق تحولا نوعيا في التعامل مع مرحلة كانت على أشدها أكثر شراسة واحتقانا، ولعل هذا التمثل عند الروائيين أظفى مسحة من الواقعية على أسئلة المجتمع ومثقفيه، إذ أن السرد أثار جملة من الإشكالات التي كانت مغيبة، ويستعصي نقاشها، وهو ما دفع بالذين عاشوا مرارة السجن أن يفجروا هذا المحرم ويفضحوا مكبوته، وبالتالي يقومون بتعرية سوءاته وإظهارها جلية، وهكذا" يقوم السارد بفضح كتابته أيضا باعتبارها "كذبا" سرديا و "فنتازيا" حكائية، عبر اللجوء الفضحي لمجموعة من الأساليب واللجوءات السرية الأخرى"[19]، وسوف لن يتم الإكتفاء بهذا فقط، بل سيذهب الكاتب بصحبة السارد إلى أبعد من المعاناة، موثقا بذلك تاريخ العذاب داخل السجن، وراسما هندسة القمع ضمن صورة اختزلتها المؤسسات القامعة في القتل والاغتيال والتعذيب والنفي والتنكيل والإقصاء، لذلك نلحظ أن فضاء السجن كان في جل الروايات التي اهتمت بالموضوع عينا دقيقة للسارد، وهي في الأصل للكاتب الذي عاش محرقها وعانى من ويلاته.
ولقراءة هذه الصور، يمكن أن نشير بدقة إلى رواية "الساحة الشرفية" التي تعتبر من أهم الروايات المغربية المهتمة بالسجن في شموليته وفي تعدديته، وهكذا نلحظ ذلك على الشكل التالي:
- "الاعتقالات التي ستؤلف بين قلوبنا داخل السجن"[20]
- "تأخر كثيرا عن الموعد الذي ضربه لنا في السجن: "لن أعود أبدا، وسترون بعد الخروج"[21].
-"كذلك كان متاعنا الحقير، متاع أولئك الذين أمضوا في السجن"[22]
-"....لكن السجن لا يتبدل، الوجود داخل السجن لا يتبدل..."[23]
-"...وإذا تاقت نفسه إلى الإشراقة في الليل السجني الثقيل قصد (قاعة التلفزة للترويح)"[24]
-"وفي السجن رأيته مجرد الوجه: أنف دقيق بعض الشيء يعكس، كما توقعت منه اليوم الأول، طبعا حادا لا يعرف المراوغة"[25].
-"سنوات تمضي وأخرى تجيء دون أن يغتر الذين كانوا في السجن وقتذاك لأتفه الأسباب أن شيئا في البلاد قد تغير"[26]
-"قلت لها ذات يوم بأن السجن يحول عواطف الرجل إلى "امرأة" "وادعة"[27].
-"في الزنزانة حالة من الاختناق الممزوجة بالرائحة التي كانت تفوح من المرحاض كلما تنفس المجرى"[28]
-"ولما دخلت بنا السيارة العسكرية إلى فضاء عار قيل لنا إنها الساحة الشرفية، وسنعرف فيها بعد أن الساحة الشرفية هي المكان الذي يستوي فيه العلم الوطني، ومنها تتفرع الطرقات والاتجاهات نحو أحياء السجن المترامية"[29].
-"السجن طفولة الماضي وحصن الذكريات"[30]
إن السجن من هذا المنظور، يصبح فضاء تتقابل فيه شتى صنوف الأوجاع والمعاناة، وهو هنا مواز للداخل بالنسبة للذات الكاتبة والمنكتبة وخارجها كما أسلفنا، في حين أن عين السارد وهي تلتقط تفاصيل المكان لجعله يشذ عن صورته الأولى، فمن توصيف للعلاقة بينه والتمثل الواقعي أو الذهني أو المجرد، إلى ربطه بالأسئلة السياسية والثقافية، والمعارك الاجتماعية وغيرها، وتختلف معطيات السارد حسب اختلاف باقي الشخصيات الأخرى ، و"في هذه الفترة كان إدريس العمراوي منهارا، وكان مصطفى درويش خائنا، وعبد العزيز صابر فردانيا ذاتيا ملعونا، فلا هو بالخائن لأنه لم يكن قائدا، ولا هو بالمنهار، ... أما أحمد الريفي فكان عدميا لم يجد له حمدان صفة غيرها: "[31] ذلك أن السارد وهو يسرد بضمير المتكلم، لا يألو جهداعندما يستعيد صورته وصور الآخرين داخل السجن، ويعمق هذه العلاقة بواسطة استحضاره لنصوص غائبة يتفاعل من خلالها مع المكان" سمع المقرئ خلفه يردد "وترى الأرض هامدة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج" ربما كان يضيف وهو يبتعد قليلا "له ما في السماوات وما في الأرض"[32] أو "تذكر المعري وقال معه: خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد"[33]، فالفضاء السجني يختزل الصورة الوجودية للسارد، وفي نفس الوقت يستثمرها ليشكل ذاته ويهندس خلاياها وتمظهراتها، وبالتالي تبرز كمدونة توثيقية لأهم المراحل السجنية.
وفضاء السجن في الرواية، هو فضاء مغلق على ذاته، وكلما كان ينفتح إلا ويحكم استغلاقه من طرف مؤشرات وعلامات المكان، بحيث لا يكاد تظهر فيه فجوة إلا وتنسد فتحل محلها غيابات والتباسات"، في الدرب تعودت على صورة إدريس خلف العصابة التي كانت تغطي عينيه بحكم الحوار. لعله كان يراني على نفس الهيئة فأبدو له على نحو ما كان يتصورني عليه. أنا الشبيه تقريبا، على الأقل بتلك العصابة التي كانت تحزم عيني"[34] وفي اللغة أيضا نحس بهذا من خلال قول الحارس الإدريس العمراوي "إيوانعاس لمك"[35]، وكم مرة سمعت إدريس يقول للحارس هذا "نوض نبول الحاج؟ فيقول الحاج: نوض تبول. وأحيانا لا يقول شيئا[36]، هكذا نجد أن السارد وهو يروي الوقائع، يستثمر كافة عناصر الحكي، بل يلجأ أحيانا إلى الإيهام باختلاف خطابات الشخصيات واستخدام السخرية وتمثل التقنيات الحديثة كالحذف والاسترجاع والتمويه والتقطيع.
خاتمــــة:
هذه قراءة أولية لسرد عبد القادر الشاوي السجني، تحاول أن تستعيد معه بعض الأسئلة التي راهن عليها ثقافيا وسياسيا، لكنها اختزلت في إنتاجات إبداعية عوضته عن ذلك كل المراحل التي شكلت له تجربة أدب السجون، وبالتالي جعلته ذاكرة حية ومرجعا له أهلية مخصوصة بالنسبة لهذا المنحى.
إحالات وهوامش :
[1] - عبد الرحيم العلام . الذات والكتابة قراءة في دليل العنفوان لعبد القادر الشاوي.مقدمات .عدد.13 .-1998 .البيضاء .ص87 .
[2] - عبد القادر الشاوي . دليل العنفوان . الفنك الطبعة 1 البيضاء.
[3] - نفسه، ص13.
[4] - عبد القادر الشاوي، الساحة الشرفية .الفنك. 1999. البيضاء. ص5.
[5] - عبد القادر الشاوي. باب تازة . منشورات الموجة . الطبعة الأولى . 1994. الرباط . ص7.
[6] - محمد برادة. نص مواز على ظهر غلاف رواية "دليل العنفوان" مرجع سابق.
[7] - سعيد يقطين، الرواية العربية، من التراث إلى العصر (من أجل رواية تفاعلية عربية) علامات، المغرب، العدد 20. 2003 ص40.
[8] - عبد القادر الشاوي، دليل العنفوان، مرجع سابق، ص27.
[9] - نفسه، ص66.
[10] - نفسه، ص92.
[11] - نفسه، ص96.
[12] - عبد القادر الشاوي، الساحة الشرفية. نشر الفنك . البيضاء المغرب، 1999، ص24.
[13] - نفسه، ص ص 154-155.
[14] - عبد القادر الشاوي، باب تازة، منشورات الموجة،مرجع سابق . ص10.
[15] - Hana Jechova et jaques voisine. Les voyageurs devant l’événement révolutionnaire. Cahier d’Histoire Littéraire comparée. N° 5-6 Imprimerie Centrale de L’Artois 1981. P113.
[16] - عبد القادر الشاوي، دليل العنفوان، مرجع سابق . ص75.
[17] - Géorgegusdorf. Auto-bio graphie, Edition odile Jacob 1991 Paris P42.. نقلا عن عبد القادر الشاوي مقدمات .عدد مزدوج 13- 14 صيف خريف 1998. ص54.
[18] - عبد القادر الشاوي، باب تازة،مرجع سابق، انظر المكتوب على ظهر غلاف الرواية كنص مواز.
[19] - عبد الرحيم العلام، الذات والكتابة ... مرجع سابق . ص89.
[20] - عبد القادر الشاوي، الساحة الشرفية، مرجع سابق . ص95.
[21] - نفسه، ص98.
[22] - نفسه، ص99.
[23] - نفسه، ص101.
[24] - نفسه، ص109.
[25] - نفسه، ص111.
[26] - نفسه، ص ص120-121.
[27] - نفسه، ص132.
[28] - نفسه، ص154.
[29] - نفسه، ص182.
[30] - نفسه، ص106.
[31] - نفسه، ص106.
[32] - نفسه، ص228.
[33] - نفسه، ص229.
[34] - نفسه، ص110
[35] - نفسه، ص110.
[36] - نفسه، نفس الصفحة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق