توظيف الجسد في الرواية العربية بين الخطاب الجنسي وتشييد الدلالة
محمد صولة
يدور نقاش كبير اليوم حول موضوعة ذات أهمية خاصة ، هي : إشكالية توظيف الجسد في الإبداع الروائي العربي كخطاب ترميزي يحيل على المكبوت الجنسي بصفة خاصة من جهة ، وعلى الممنوع بصفة عامة من جهة أخرى ، بحيث بات من الضروري أن يستثمر هذا النوع من التمثل السيكولوجي للبحث في العمق الإنساني عن صورة تختزل عوالم الذات الباطنية ، قصد فهم أنشطتها المضمرة ، ورغباتها المنزوية في اللاشعور ، وهذه الإشكالية بقدر ما هي ذات طابع خصوصي عند البعض ، بقدر ماهي مستقلة بخطابها ووظيفيته ورمزيته، لذلك نروم الإبتعاد عن الحديث المفصلي المتوخي النزعة الأكاديمية ، أو الإسقاطي الذي يجتر التعاليم المدرسية المنمطة ، بل نسعى هنا إلى الوقوف على بعض تمظهرات التوظيف المشيد للدلالة الفنية والجمالية ، وإذا كان البعض قد ركز من وراء هذا على الإيديولوجي والمعرفي ، فإن الجسد كخطاب لم يقرأ بما فيه الكفاية إلا مع بعض الدارسين السميائيين والأنثروبولوجيين والسوسيولوجيين والتأويليين والفلاسفة الإستتيقيين والنقاد المهتمين بهذه الإشكالية ، لذا نجد أن هذا الإستثمار خضع إلى نوع من الإلتباس في اللغة ، وفي المصطلح ، وفي الفهم والتفسير ، وقد نكاد نحس وكأن هناك تشابها في نمط الكتابة الروائية المستثمرة لهذه التيمة ، لذلك نلاحظ أن الجسد يمكن قراءته من مستويات عدة ، لعل أهمها هو : التوظيف التراثي ، التوظيف التاريخي ، الإستثمار المعرفي ، والإستعمال الأسطوري الرمزي ، ونشير أيضا إلى أن مجموعة من الكتابات السردية قد اهتمت بالجسد في بعده السيكلوجي ، بحيث عملت على جعله لاشعورها الجمعي واستقصت من خلاله الرغبات والمكبوتات والغرائز .
إن طرح هذه المسألة في الرواية العربية يعيدنا مباشرة إلى نصوص بعينها ، وقد كان السباق إلى هذا الإستحضار هو أب الرواية العربية نجيب محفوظ ، ثم بعده بدأنا نقرأ لأسماء تختلف في نمط الكتابة والأسلوب والتمثل والتقنية والوعي بالجمالي ، ومن منا لا يقرأ هذه العناوين ولا يستمتع بمتخيلها ، ونحصرها في : بنات الرياض لرجاء الصناع ، الرعشة و وليمة الأكاذيب لأمين الزاوي ، طومبيزا لرشيد ميموني ، رائحة الكلب لجيلالي خلاص ، الحلزون العنيد لرشيد بوجدرة ، ذاكرة جسد وفوضى الحواس وعابر سرير والأسود يليق بك لأحلام مستغانمي ، تاء الخجل واكتشاف الشهوة لفضيلة الفاروق ، الخبز الحافي وزمن الأخطاء ووجوه والسوق الداخلي لمحمد شكري ، قبور مشتعلة لأحمد الكبيري ، سيدة المقام لواسيني الأعرج ، وعرس بغل لطاهر وطار، بالإضافة إلى نصوص أخرى أكثر جرأة ، تستثمر الجسد للتعبير عن معاناة الذات الإنسانية في مآزقها و تشظيها الوجودي .
لقد فهم المبدع بأن الجسد هو اختزال لكينونة و لديمومة ، كلاهما لاينتهيان إلا بتوفر شروط الحياة أو الموت ، والوعي الجسدي في الرواية العربية تم ربطه بالجنس في حدوده المريضة والبوهيمية ، ولعل هذه الإستدعاءات التي تخللت الخطاب السردي العربي كانت مبعث إعادة الإعتبار للأنا العربية التي تم إقصاؤها لزمن طويل ، وليس كل خطاب يؤول العلاقة بين المذكر والمؤنث موظفا الإيحاء الجنسي إلا وهو دليل على الشهوة والرغبة ، وإن كان علم النفس قد أسس قاعدته الذهبية على اعتبار أن الجنس هو أساس الحضارة . هذه الصيغة بقيت حاضرة في الوعي النظري الغربي إلى أن تم إرغامه على استبداله بالإنساني بدل الحيواني ، أي إعمال العقل وليس الغريزة ، وبهذا كانت هناك دراسات سوسيولوجية اهتمت بالظاهرة في شتى المجالات والميادين ، نذكر منها دراسات الإمام الغزالي و عبد الكبير الخطيبي وعبد الصمد الديالمي وعبد الوهاب بوحديبة وفاطمة المرنيسي وفاطنة أيت الحاج وسومية نعمان جسوس وعبد الرحيم مشيشي وعبد الحليم أبو شقة ، وامتدادا لهذه السيرورة ، صاغت الرواية العربية لغتها وأسئلتها ، وانتهزت الفرصة للبحث في أتون اللاشعور المكبوت ، ودفعته للإزاحة والتخلص من كل ما هومتقوقع ومحبط . إن الجنس في الرواية العربية هو استعادة الإحساس بالتحرر من القمع الأبيسي الذي سلط على رقبة الإنسان وأصابه بالإنهيار والعقم والعي .
في بعض الكتابات الروائية نجد الكاتب كثيرا ما يستثمر حالات وظواهر ، هي :الإغتصاب ،أو الختان ، أوالزنا ، أوالكبت ، أو الإعتراض والنشوز ، أوالإستبراء ، والتوظيف الفني غالبا ما يراهن على خلق المتعة القرائية ، التي تستحوذ على المرسل إليه أثناء عملية التلقي ، بحيث إن الجنس لايقصد به هنا النكاح أو المضاجعة أو الوطء أو الجماع أو المواقعة أو الحرث كما ورد في القرآن الكريم ، بل هو في الكتابة السردية اختلاء بالذات والذهاب بها إلى أقاصي أسئلة الوجود من خلال ما تحمله كلماته ، علاماته من معان ودلالات .
يأتي على لسان السارد في رواية " وليمة لأعشاب البحر" لحيدرحيدر مايلي : وهما معا على مائدة الطعام يأكلان الستيك والبطاطا المقلية ويشربان النبيذ الأحمر ، يحاول أن يشرح لها أفكاره حول العلاقة الصحية بين الرجل والمرأة . العلاقة التي تتجاوز اليومي والتجاري والجنسي إلى الحزن والفرح الكامنين في الخلايا : إذا استطاع رجل وامرأة أن يتعانقا بعد انقضاء رعشة الجنس فلن يفترقا أبدا (ص 190) ، فهذا الوعي بالجنس يجعل الإحساس به يفوق العلاقه الوضيعة المعروفة لذى الإنسان ، إذ يصبح متعاليا ومطهرا ، وبذلك يختم روايته بالجملة التالية : ...وباندفاعة طائر يقذف جسده إلى البحر (ص376) .
محمد صولة
يدور نقاش كبير اليوم حول موضوعة ذات أهمية خاصة ، هي : إشكالية توظيف الجسد في الإبداع الروائي العربي كخطاب ترميزي يحيل على المكبوت الجنسي بصفة خاصة من جهة ، وعلى الممنوع بصفة عامة من جهة أخرى ، بحيث بات من الضروري أن يستثمر هذا النوع من التمثل السيكولوجي للبحث في العمق الإنساني عن صورة تختزل عوالم الذات الباطنية ، قصد فهم أنشطتها المضمرة ، ورغباتها المنزوية في اللاشعور ، وهذه الإشكالية بقدر ما هي ذات طابع خصوصي عند البعض ، بقدر ماهي مستقلة بخطابها ووظيفيته ورمزيته، لذلك نروم الإبتعاد عن الحديث المفصلي المتوخي النزعة الأكاديمية ، أو الإسقاطي الذي يجتر التعاليم المدرسية المنمطة ، بل نسعى هنا إلى الوقوف على بعض تمظهرات التوظيف المشيد للدلالة الفنية والجمالية ، وإذا كان البعض قد ركز من وراء هذا على الإيديولوجي والمعرفي ، فإن الجسد كخطاب لم يقرأ بما فيه الكفاية إلا مع بعض الدارسين السميائيين والأنثروبولوجيين والسوسيولوجيين والتأويليين والفلاسفة الإستتيقيين والنقاد المهتمين بهذه الإشكالية ، لذا نجد أن هذا الإستثمار خضع إلى نوع من الإلتباس في اللغة ، وفي المصطلح ، وفي الفهم والتفسير ، وقد نكاد نحس وكأن هناك تشابها في نمط الكتابة الروائية المستثمرة لهذه التيمة ، لذلك نلاحظ أن الجسد يمكن قراءته من مستويات عدة ، لعل أهمها هو : التوظيف التراثي ، التوظيف التاريخي ، الإستثمار المعرفي ، والإستعمال الأسطوري الرمزي ، ونشير أيضا إلى أن مجموعة من الكتابات السردية قد اهتمت بالجسد في بعده السيكلوجي ، بحيث عملت على جعله لاشعورها الجمعي واستقصت من خلاله الرغبات والمكبوتات والغرائز .
إن طرح هذه المسألة في الرواية العربية يعيدنا مباشرة إلى نصوص بعينها ، وقد كان السباق إلى هذا الإستحضار هو أب الرواية العربية نجيب محفوظ ، ثم بعده بدأنا نقرأ لأسماء تختلف في نمط الكتابة والأسلوب والتمثل والتقنية والوعي بالجمالي ، ومن منا لا يقرأ هذه العناوين ولا يستمتع بمتخيلها ، ونحصرها في : بنات الرياض لرجاء الصناع ، الرعشة و وليمة الأكاذيب لأمين الزاوي ، طومبيزا لرشيد ميموني ، رائحة الكلب لجيلالي خلاص ، الحلزون العنيد لرشيد بوجدرة ، ذاكرة جسد وفوضى الحواس وعابر سرير والأسود يليق بك لأحلام مستغانمي ، تاء الخجل واكتشاف الشهوة لفضيلة الفاروق ، الخبز الحافي وزمن الأخطاء ووجوه والسوق الداخلي لمحمد شكري ، قبور مشتعلة لأحمد الكبيري ، سيدة المقام لواسيني الأعرج ، وعرس بغل لطاهر وطار، بالإضافة إلى نصوص أخرى أكثر جرأة ، تستثمر الجسد للتعبير عن معاناة الذات الإنسانية في مآزقها و تشظيها الوجودي .
لقد فهم المبدع بأن الجسد هو اختزال لكينونة و لديمومة ، كلاهما لاينتهيان إلا بتوفر شروط الحياة أو الموت ، والوعي الجسدي في الرواية العربية تم ربطه بالجنس في حدوده المريضة والبوهيمية ، ولعل هذه الإستدعاءات التي تخللت الخطاب السردي العربي كانت مبعث إعادة الإعتبار للأنا العربية التي تم إقصاؤها لزمن طويل ، وليس كل خطاب يؤول العلاقة بين المذكر والمؤنث موظفا الإيحاء الجنسي إلا وهو دليل على الشهوة والرغبة ، وإن كان علم النفس قد أسس قاعدته الذهبية على اعتبار أن الجنس هو أساس الحضارة . هذه الصيغة بقيت حاضرة في الوعي النظري الغربي إلى أن تم إرغامه على استبداله بالإنساني بدل الحيواني ، أي إعمال العقل وليس الغريزة ، وبهذا كانت هناك دراسات سوسيولوجية اهتمت بالظاهرة في شتى المجالات والميادين ، نذكر منها دراسات الإمام الغزالي و عبد الكبير الخطيبي وعبد الصمد الديالمي وعبد الوهاب بوحديبة وفاطمة المرنيسي وفاطنة أيت الحاج وسومية نعمان جسوس وعبد الرحيم مشيشي وعبد الحليم أبو شقة ، وامتدادا لهذه السيرورة ، صاغت الرواية العربية لغتها وأسئلتها ، وانتهزت الفرصة للبحث في أتون اللاشعور المكبوت ، ودفعته للإزاحة والتخلص من كل ما هومتقوقع ومحبط . إن الجنس في الرواية العربية هو استعادة الإحساس بالتحرر من القمع الأبيسي الذي سلط على رقبة الإنسان وأصابه بالإنهيار والعقم والعي .
في بعض الكتابات الروائية نجد الكاتب كثيرا ما يستثمر حالات وظواهر ، هي :الإغتصاب ،أو الختان ، أوالزنا ، أوالكبت ، أو الإعتراض والنشوز ، أوالإستبراء ، والتوظيف الفني غالبا ما يراهن على خلق المتعة القرائية ، التي تستحوذ على المرسل إليه أثناء عملية التلقي ، بحيث إن الجنس لايقصد به هنا النكاح أو المضاجعة أو الوطء أو الجماع أو المواقعة أو الحرث كما ورد في القرآن الكريم ، بل هو في الكتابة السردية اختلاء بالذات والذهاب بها إلى أقاصي أسئلة الوجود من خلال ما تحمله كلماته ، علاماته من معان ودلالات .
يأتي على لسان السارد في رواية " وليمة لأعشاب البحر" لحيدرحيدر مايلي : وهما معا على مائدة الطعام يأكلان الستيك والبطاطا المقلية ويشربان النبيذ الأحمر ، يحاول أن يشرح لها أفكاره حول العلاقة الصحية بين الرجل والمرأة . العلاقة التي تتجاوز اليومي والتجاري والجنسي إلى الحزن والفرح الكامنين في الخلايا : إذا استطاع رجل وامرأة أن يتعانقا بعد انقضاء رعشة الجنس فلن يفترقا أبدا (ص 190) ، فهذا الوعي بالجنس يجعل الإحساس به يفوق العلاقه الوضيعة المعروفة لذى الإنسان ، إذ يصبح متعاليا ومطهرا ، وبذلك يختم روايته بالجملة التالية : ...وباندفاعة طائر يقذف جسده إلى البحر (ص376) .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق